أثار حكمان قضائيان نشرا أمس اهتماما كبيرا لدى الجمهور الاسرائيلي، الاول هو استنتاجات لجنة البؤر الاستيطانية برئاسة القاضي المتقاعد ادموند ليفي وتقول انه يجب على اسرائيل ان تُحل سريعا كل البؤر الاستيطانية في الضفة. والثاني هو الحكم على رجال الشرطة الذين تركوا عمر أبو جريبان يموت على جانب الشارع 443. وحكمت محكمة الصلح في القدس على كل واحد منهم بالسجن ثلاثين شهرا. ان عقوبة رجال الشرطة هي عقوبة مناسبة جدا، ويُخيل إلي أننا تقدمنا منذ ان طُلب الى المسؤول عن المجزرة في كفر قاسم ان يدفع قرشا واحدا. ومع كل ذلك يعوزنا هنا شيء. فقد قال القاضي حاييم لي ران ان سلوك المتهمين "قبيح يثير الاشمئزاز" وأضاف يسأل: "يصعب علي ان أفهم كيف غاب عنهم ان يروا وان يفهموا وان يستوعبوا مشكلة انسان خُلق على صورة الله برغم أنهم كانوا متنبهين تماما الى الوضع الجسمي والنفسي للمعتقل". لا يصعب في واقع الامر ان نُخمن كيف غاب ذلك عن أعين رجال الشرطة. ففي واقع لا تُعرض فيه حياة الفلسطيني على أنها تساوي في قيمتها حياة الاسرائيلي يسهل على الاسرائيلي ان يقرر ان حقه في المضي للنوم أكثر قداسة من حق الفلسطيني في ان يظل حيا. ان رؤية الانسان انه بشر خُلق على صورة الله هي قيمة يجب على المجتمع ان يعززها، لكن المجتمع الاسرائيلي يعزز معاملة تكاد تكون عكسية للفلسطينيين، فهم لا يستحقون الحرية أو الحقوق لأن هذه الارض وُعد بها آباؤنا، فوجودهم فيها بمنزلة عبء، ولأنهم جميعا وأبناءهم ايضا "مخربون محتملون". ان جريمة رجال الشرطة هي في الحقيقة فعل أيديهم، لكن خطيئة سلب الفلسطينيين انسانيتهم التي نبعت منها الجريمة هي خطيئة المجتمع الاسرائيلي كله. وفي تجاهل هذه الحقيقة تكمن الصلة بين الحكمين أمس. فقد زُعم في تقرير لجنة ليفي ان اسرائيل ليست "قوة محتلة" في الضفة من جهة قانونية وهو قول بادرت وسائل الاعلام الى ان تستنتج منه ان "القاضي ليفي يقول: لا احتلال". ولا يوجد احتلال في نظر القاضي لي ران ايضا لأن الحكم لا يشتمل على توبيخ للثقافة الاسرائيلية التي خلقت هذا السلوك بل فيه اشمئزاز من رجال الشرطة أنفسهم. سيعاقب تاركو أبو جريبان في أسرع وقت، فمتى يعاقب اولئك الذين علموهم أنه يجوز ان يُترك فلسطيني ليموت؟ ومتى يعاقب معلموهم وآباؤهم وقادتهم في الجيش أو اصدقاؤهم الذين يطلقون الدعابات عن العرب؟ ومتى ستعاقب حكومات اسرائيل التي تعامل الفلسطينيين هذه المعاملة على الدوام وتترك شعبا كاملا على جانب الطريق منذ اربعة عقود؟. لن يعاقبوا لأنه لا يوجد احتلال، فلا يوجد سوى رجال شرطة فسدوا. ان حقيقة ان أبو جريبان تُرك على جانب شارع محاط بالجدران والأسوار في منطقة يسري فيها قانون عسكري عنيف منذ ما يقرب من نصف قرن، وهو شارع أُزيلت عنه قيود الحركة في ظاهر الامر فقط، ولا يُرى الساكنون على طوله ذوي حق في السير فيه – غير ذات صلة كما يبدو. وليست حقيقة أنهم تعلموا طول حياتهم ان ينظروا اليه على أنه أقل وعلى أنه نتن ذات صلة ايضا. لم يكن أبو جريبان في نظر رجال الشرطة الذين أماتوه انسانا بل شيئا يُعرفه الخطاب الاسرائيلي بأنه كائن غير مرغوب فيه يستحق بيقين سلوكا عنيفا مُذلا. وكيف يمكن ان يوجد هذا الشيء اذا لم يكن يوجد احتلال؟ ان المنظومة التي دهورت مكانة الانسان الى هذه المكانة والتي تُمكّن رجال الشرطة من طرحه على جانب الشارع في بيجامة بلا ماء وبلا هاتف في منتصف الليل يجب ان تدفع ثمنا هي ايضا، بيد أنها مشغولة في هذه اللحظات كثيرا بالمصافحة وبتسليم وثائق قانونية تثبت فيها لنفسها أنها بلا أي عيب.