"كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن". ينجم عن كل أزمة ظرف ثوري واحد من احتمالين: إما ظهور زعيم على صورة قائد ملهم أو بطل قومي، يحوز ـ في شخصيته ـ تمركزاً كاريزمياً. وإما ظهور تيار سياسي أيديولوجي قوي يحوز أغلبية كاسحة، جماهيرية أو برلمانية، ولكن دونما امتلاك جاذبية وسحر زعامة، تتركز في شخصية واحدة، تقود هذا الحزب أو التيار. إن الأزمة المصرية اليوم، وعلى النقيض من ثورة 1952 تتجه إلى أرجحية الاحتمال الثاني. الاستقطاب الحاد بين تيار قوى الثورة وتيار الثورة المضادة أو الرجعية. محمد مرسي ممثلاً للإخوان المسلمين، كأقوى تيار سياسي أيديولوجي في مصر اليوم مقابل أحمد شفيق ممثل ما يسمى تيار فلول النظام السابق، هذا الاستقطاب ما كان له أن يحدث على هذه الشاكلة، في صناديق الانتخاب، لولا الخطيئة التي ارتكبتها قوى الثورة في غياب زعيم ملهم، بالظهور على هذا الشكل من التفكك، حينما اقتربت الثورة فعلياً من السلطة "كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن" قال غاندي. قانون الدم: مجزرة الحولة كل اقتتال داخلي سواء أكان باسم الحفاظ على شرعية النظام، وأولوية الاستقرار على الفوضى، أم أولوية تغيير النظام بأي ثمن، فإن هذا الاقتتال ـ في امتداده على محور الزمن، ودون أن تلوح الفرصة للتوصل إلى تسوية، أو تمكن أحد الطرفين من تحقيق الحسم لمصلحته، فإنه سرعان ما يتحول ويتخذ شكل وأسلوب وقانون الحروب الأهلية. وفي هذا النوع من الحروب الأهلية، فإن الانتقام الغريزي الثأري الطائفي، العائلي، الوحشي بالمطلق، هو الذي يشكل القانون الأعم، لعمليات القتل المتبادلة، وحينها، حين يصبح الانتقام الثأري، لأجل الانتقام هو الدافع الرئيس، المحرك الأول للغرائز، فإن السبب الأصلي الذي قامت من أجله الأزمة، يتوارى جانباً إلى الخلف، وتصبح المسألة: إما نحن وإما هم. وهنا عند اللحظة الرهيبة من توقف العقل، ونشوء وضع من انعدام السيطرة والضبط، فإن القتل واختطاف الناس على الهوية، كما الإعدامات التي تتخذ شكل المجازر المذهبية والطائفية، يكون بمثابة العلامة الأخيرة والواضحة على بلوغ الحرب الأهلية والبلاد القعر الأخير لوحل سفك الدماء، قبل أن تبلغ هذه الاندفاعة نواتها الأخيرة، باستنفاد آخر قطرات الدم التي تحملها. إن سورية اليوم ـ للأسف ـ تقترب رويداً من السيناريو المرعب والمخيف، مجزرة بلدة الحولة، هي العنوان على الحائط، جرس الإنذار، ولكن لعله الإنذار الأخير. متلازمة قانون الدم يحتاج الإقدام على سفك الدم، القتل، إلى دافع قوي لا يوفره في هذه الحالة إلا إيمان عميق بالقتل نفسه، ليس كحل وحيد، وإنما كضرورة، وهذا الإيمان للأسف لا يوفره كغطاء، إلا عقيدة دينية أو أيديولوجية، تعمل بمثابة مسوغ للقتل، والتصميم على القتل على حد سواء. الإيمان الذي يتحول إلى نوع من الحقد الذي يمنح القاتل الشفاء النفسي من فعل القتل، وربما شرفاً وزهواً، أمام نفسه يبلغ مرتبة البطولة. حتى جيفارا نفسه قال ذات مرة "يجب أن تحقد على العدو كي تستطيع قتله". والتاريخ يزخر بل يمتلئ بقصص القتل وسفك الدماء باسم الدين، والعقائد الأيديولوجية، حتى بعد دخول الإنسانية طور المدنية. الحروب الدينية في أوروبا في القرن السابع عشر، والحروب الصليبية نفسها، حين وضع رسم الصليب المقدس على أسنة الرماح والرايات، وانتزعت المسيحية، من روحها الأصلية التي بشّر بها السيد المسيح. وللأسف، فإن الإسلام اليوم يستعمل كغطاء لفعل القتل، في العراق كما في سورية، واليمن، والصومال، ما يجعلنا نقول إن الإنسانية المعاصرة، لا تنتج بكليتها سوى ثقافة القتل والتحريض على هذا القتل على حد سواء. طالما أن هذه الإنسانية جمعاء، لا تزال بعيدة بل غريبة عن الروح الحقيقية للأديان، وقد قتلوا واستعمروا شعوب الأرض باسم نقل هذه الشعوب من التخلف إلى الحضارة، وفي زمننا المتأخر قتلوا إلى حد الإبادة باسم الديمقراطية، وتعميم هذه الديمقراطية على حد سواء، ومن المفارقة هنا على سبيل التفكه والسخرية أن نابليون بونابرت حينما غزا مصر في حملته الشهيرة ادعى أن ذلك باسم الإسلام. وكيف يغمض العالم عينيه عن قتل الصهيونية أمام الملأ شعباً بكامله هو الشعب الفلسطيني دون أن يهتز أو يرتجف جفن عين هذا العالم. آل الأسد على طريقة مآسي شكسبير يمكنك أن تحتوي الثورة في المرة الأولى، دون أن تتكلف ثمناً باهظاً، لكن حذار في الثورة الثانية، فإنك تحتاج إلى دفع ثمن أكبر وأشد كلفة. وهكذا قد تبدو علاقة الأب بالابن من وجهة نظر هذا القانون كقدر يكدر النفس، ينطبق عليه المثل القائل: الآباء يزرعون، والأبناء يضرسون. في المرة الأولى، أوائل الثمانينيات، تغلب الأسد الكبير على الثورة، بسهولة واضحة، حتى قال كيسنجر فيما بعد إنه سبب له القهر والتعاسة، بالقضاء على جميع الأغبياء من شعبه على حد تعبير كيسنجر الصريح والوقح. لكن في المرة الثانية هاكم صراع هاملت الابن مع تركة أبيه، الأب الذي نجح، أيضاً، في التخلص من الأخ الشقيق الذي يلعب دور العم كما في مآسي شكسبير الذي ينافس ابن الأخ على عرش أبيه. إن بوتين يعوض في صراع الابن، غياب الاتحاد السوفيتي القديم زمن الأب، لكن مأساة الابن لا تكمن هنا في اختلاف الزمن، ولكن في أن الصراع على سورية في زمنه يكاد يصبح اليوم هو محور العالم، كما تقرير مصير هذا العالم على حد سواء. ولذا فإن خصومه لن يتركوه ويتركوا سورية تخرج بسلام من هذا الصراع، الصراع الذي يمكن تصويره أيضاً، على أنه المبارزة الحاسمة الفاصلة بين أبو علي بوتين وأبو حسين أوباما في المشهد الأخير من مسلسل باب الحارة السورية الشهير. فهل يتوصل هذان الملاكمان إلى تسوية لإنقاذ العالم، وإنقاذ سورية في لقائهما المتوقع هذا الشهر؟ ويكون بذلك التصعيد الأخير الذي تشهده سورية من قبيل ليّ الأذرع في هذا الكباش، قبل التوصل إلى تسوية؟ للأسف أنا أقول إن الجواب هو كلا. فهذا صراع لا ينطوي على تسويات قوامها "لا غالب ولا مغلوب"، إذا كانت سورية هي جسر العبور، في كلا الاتجاهين، إما للإبقاء على النظام العالمي القديم، أو ولادة النظام العالمي الجديد. السيناريو السري للتدخل العسكري الخارجي في سورية لو كان لي أن ارسم مخططاً افتراضياً، للسيناريو المحتمل في سورية، فقد يتبين لنا اليوم أننا لا نقف بإزاء الانخراط الفعلي في الحرب الأهلية، ولكن ربما في الخيار الآخر الذي بدا في غضون الأشهر الماضية من عمر الأزمة كخيار مستبعد، أي خيار التدخل العسكري، كما حدث في العراق، وليبيا. لقد حدثناكم السبت الماضي، عن تهيؤ المسرح اللبناني لتقبل فرضية تمدد الأزمة السورية إلى لبنان، ووفق هذا التصور رجحنا احتمال قيام سورية، بتوسيع نطاق عمليات الجيش السوري، إلى شمال لبنان للقضاء على القاعدة الارتكازية التي تمد المجموعات المسلحة بالسلاح، والمقاتلين. لكن ربما يتضح لنا اليوم العكس من ذلك، إن تبلور شمال لبنان كقاعدة انطلاق جاهزة، هو العامل الذي يهيئ مسرح العمليات في سورية نفسها للتدخل العسكري الخارجي، وإذا تأكد لنا اليوم تأجيل القرار الدولي بالتدخل، إنما كان ينتظر إلى جانب هذا العامل، نضوج الوضع السوري الميداني نفسه، بعد استنزاف الجيش السوري، في حرب متواصلة منذ أربعة عشر شهراً، وإذا ألقينا نظرة، إلى ما يحدث في العراق بصورة متزامنة، من محاولة إسقاط حكومة نور المالكي، الحليفة لسورية وإيران، فإن استغلال مجزرة الحولة، والقرار الأميركي الأوروبي بطرد السفراء السوريين إنما يضع إشارة لا تحتمل الالتباس، حول الاستعداد لإحداث النقلة الكبرى في القضية السورية، بحيث يبدو واضحاً أن الخيار العسكري هو اللعبة الوحيدة، التي يراهن عليها الحلف الأميركي الغربي، بديلاً عن خطة أنان. وذلك قبل أن يتحول إذا نجح النظام السوري (الحلف الإيراني السوري وحزب الله) في تطويق المصالح الأميركية في الخليج، مثل كماشة خطة "كاناي" تمهيداً لسحق الوجود والنفوذ الأميركي هناك، في السيطرة على حقول النفط والغاز. فهل الهجوم المبكر على جانبي سورية، جناحي الميمنة والميسرة في العراق ولبنان، هو التمهيد للهجوم الكبير في قلب الشام؟.