في مثل هذا اليوم، قبل إحدى عشرة سنة، غيب الموت علماً من أعلام القدس، وطوى رمزاً من رموزها، وذلك حين ترجل الفارس المقدسي، عن جواده، ومضى فيصل الحسيني وهو في عز عطائه وذروة الحاجة إليه إلى جوار ربه مع الشهداء الأبرار، كقائد فتحاوي فلسطيني مقدسي مقدام، وكمناضل صامد، صمود أشجار الزيتون بين صفوف أبناء مدينته الصابرين الصامدين المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. كانت خسارتنا بفيصل بالغة، وكان رحيله المباغت مؤلماً، فقد إفتقدناه ومعركة القدس تزداد ضراوة، والعدوان الاسرائيلي يشتد وحشية على الأرض والمقدسات، وعلى أبناء القدس وأهلها المنزرعين عميقاً في أرض وطنهم ومدينتهم المقدسة، المنافحين عن حياضها، المقاومين لمحاولات تهويدها وكسر روحها، وتغيير معالمها وهويتها الثقافية والحضارية العربية الاسلامية الخالدة. وعلى مدى عقد من الزمان وأكثر، ونحن نعمل على سد الفراغ الذي خلفه فيصل في مدينته المقدسة، ونسعى إلى تعويض حضوره وصموده وبعد نظره، ولكننا بدل أن نأخذ الدرس من التجربة الطويلة، ونستلهم الصبر من غياب أمير القدس عنها، وإذ بنا نزداد إرتباكاً، فنزيد من عدد المرجعيات، لتتعدد الاجتهادات وتتضارب الجهود، بينما القدس تعاني من العدوان المستمر والمتواصل، ونكابد من إشتداد حدة الخلل في ميزان معركتها ، ومن ضعف أدائنا ومن تهافت قدراتنا على الاستجابة لسلسلة التحديات والمخاطر المحدقة بالمدينة المقدسة. ونحن إذ نترحم اليوم على روح فيصل الحسيني، فإننا نستذكر دوره وحضوره، بصورة أشد وأكثر مما كان عليه الحال في حياته، خاصة ونحن اليوم، نقف في مواجهة أشرس حملة عدوانية على القدس ومقدساتها ومعالمها وأرضها وسكانها، نصبر الصبر كله في أشد ساعات الليل حلكة، وفي أكثر الاوقات حاجة الى حكمته وصلابته وقدرته على رباطة الجأش والتسامح والعطاء في أقسى الظروف وأكثرها صعوبة. لقد كان فيصل إبناً باراً بمدينة القدس، أعطاها جل سنوات عمره، وبذل في سبيل خلاصها من الاحتلال الغاشم كل ما في قلبه ووجدانه من تعلق لا حد له بزهرة المدائن، لم يصبه الكلل والملل في الدفاع عنها، ولم يتسلل الى قلبه اليأس في وجوبية وحتمية إستعادتها، رغم كل ما تتعرض له من إستيطان، ويجري ضد أهلها من حملات ترويع وإستئصال وتهويد، فإستحق بذلك أن يكون عنواناً من عناوينها السياسية المضيئـة. وها نحن اليوم، رفاق فيصل وزملاءه، أهله وأبناؤه، نقول : ما أحوجنا إليك في هذه المرحلة وكل مرحلة، ما أحوجنا إلى مواقفك وبعد نظرك، إلى تفاؤلك وقوة يقينك، وإيمانك بقضيتك، وبقضية القدس خاصة، كأولوية لا تتقدم عليها أية قضية أخرى مهما كانت كبيرة. وإذ أعبر عن حزني بفقدان فيصل الحسيني على المستويين الشخصي والوطني، فأنني أود القول في ذكرى رحيله عنا ، كم نحن مشتاقون إلى حضورك بيننا في القدس، في بيت الشرق، في ساحة المسجد الاقصى ، في شوارع القدس العتيقة وفي حاراتها وأزقتها، في إجتماعات القيادة الفلسطينية، في كل منتدى فكري وكل ندوة سياسية، فقد كنت تحدث الفرق النوعي في كل المداولات والمواقف والمبادرات، وتعرف في مفترقات الطرق أفضل الدروب ، وأنجع الخيارات، وأبلغ الرسائل في مخاطبة الآخر بكل موضوعية ومسؤولية. وإذ نستذكر في ذكرى غيابك الموجع فيضاً من الذكريات الشخصية، والمواقف الرجولية، والمقاربات الصائبة في كل شأن من شؤون القدس والقضية الفلسطينية، فإننا نستذكر على وجه الخصوص حواراتك الداخلية الجريئة، ومكاشفاتك المتسمة دائماً بحس رفيع بالمسؤولية، وقدراتك على الجسر بين المواقف المتعارضة داخل الأطر والمرجعيات الفلسطينية، وتمسكك الشديد بالثوابت الوطنية، ورغبتك في العمل بروح الفريق، ناهيك عن خصال الوفاء والاستقامة والإيثار والشجاعة، وخاصة للقدس وأهلها ومكانتها التاريخية والوطنية. وإنني إذ أبصر بعين قلبي وجه فيصل مشرقاً بين صف طويل من كواكب الشهداء الغر الميامين الذين يضيئون ليل هذه المرحلة الفلسطينية الكئيبة، وفي مقدمتهم القائد الشهيد الرمز أبو عمار، وأبو جهاد، وأبو إياد، وعبد الفتاح حمود، وأبو صبري ، وأبو يوسف، وأبو السعيد، وأبو الهول، وسعد صايل، وماجد أبو شرار، وأبو المنذر، وأبو نزار وأنت يا فيصل، وغيرهم الكثيرين من قيادات وكوادر ثورتنا المجيدة، أقول ما أحوجنا إليك يا أبا العبد وإلى القادة الأبطال الذين فارقونا إلى جوار ربهم يرزقون ويهنئون، في هذه الآوانة الصعبة، ويا حر قلب القدس إليهم جميعاً وإليك خصوصاً في هذه اللحظة العصيبة. سلام عليك يا أمير القدس الخالد في ضمير أبنائها وبناتها، وتحية الى روحك الطاهرة في عليائها، وعهداً لك ولسائر الأخوة الذين قضوا في سبيل فلسطين وبذلوا المهج من اجل حرية شعبها، أن نظل على الدرب ذاته ننتظر ولا نبدل تبديلاً ، إلى أن نحقق الحلم الوطني المشترك ، إلى أن نستعيد حرية المدينة المقدسة، ونعلنها عاصمة لدولتنا الفلسطينية المستقلة، مهما طالت الطريق، وعظمت التضحيات، وأدلهم الليل الذي كلما طال كلما أقترب فجره أكثر فأكثر.