عندما كنا في المجلس التشريعي الفلسطيني الأول ، كانت تواجهنا هموم أبناء شعبنا وفي مقدمتها : أين سنواري أمواتنا ؟ لقلة الأراضي ولامتلاء الأماكن المعدة للمقابر . تناولنا الموضوع بالجدية الكاملة ، وأصبحنا نبحث مع أبناء شعبنا على حلول . والحلول المتاحة تتمثل في شراء قطع أراضي من ملاكها واعتمادها مقابر ، أو انتزاعها واعتبارها لملكية عامة ، وسواء كان ذلك شراء أو انتزاع ملكية ، ففي كلا الحالتين كانت السلطة تدفع الأموال اللازمة وبرضاء الملاك . حدث هذا في الشمال وفي غزة وفي الوسطى وفي رفح . وبعد خمسة عشر عاماً أوشكت هذه القطع على الامتلاء . وعندما كان بناء المطار ضرورة وطنية فقد واجهت السلطة مشكلة المكان ، وعندما اختير الموقع : خرج الاهالي في تظاهرات وأغلقوا الطريق الشرقي واعتصموا ، ولجأوا إلينا في المجلس التشريعي ، ووقفنا إلى جانبهم ، وكان الحوار عقلانياً وهادئاً ووضعناهم أما المصلحة العامة ، مبينين لهم أن المطار مشروع حيوي وسيادي ، ويحررنا من المعاناة على الحدود وفي المطارات ويربطنا بالعالم ، وكان الحديث مقروناً بتعويض أصحاب الأراضي اللازمة . وتم الاتفاق وبالتراضي وعن طيب نفس . لقد قدر ثمن الدونوم وقتها بأربعة آلاف دولار ، وفي بعض المواقع بخمسة آلاف ، أو يزيد قليلاً . أقيم المطار وأصبح مفخرة لنا وراحة لأبناء شعبنا ولكن الفرحة لم تتم : فقد دخلت عوامل عدة للإجهاز عليه حتى أصبح أثراً بعد عين ، بعد القصف والسرقة والنهب . وإذا ما استعرضنا أسعار الأراضي في تلك الفترة فقد كانت مقبولة ومعقولة وكانت في متناول الغالبية الساعين إلى شراء بعض القطع لبناء بيوت صغيرة ، لأن دخل المواطنين كان متقارباً ولا يوجد تفاوت وفروقات خيالية . الشيء الذي لم ينظر أصحاب الأراضي إلى الجشع والاستغلال لذوي الحاجة . كما أن الحصول على شقة سكنية كان هينا فلم تتجاوز الأربعين ألف دولاراً في أفضل المناطق في غزة . وفي حالة كحالتنا وظروف الحصار المتعدد المضروب على شعبنا ، وحجم البطالة ونسبتها التي تفوق الستين في المائة ، لا يمكن أن يتزامن ذلك مع الارتفاع في سعر متر الأرض حيث يتناقض ذلك مع المنطق ويدخل في عالم الخيال ، ما ينعكس إن لم يكن قد انعكس على صورتنا وأوضاعنا أمام العالم . فالمهتمون بالدراسات وواضعو السياسات والمتعاطفون مع حالتنا الفلسطينية : هالهم ما رصدوه من فوارق طبقية حتى أنهم يتحدثون وبالأرقام عن أكثر من ستمائة مليونيراً في قطاع غزة ، ونحن من جانبنا لا نستطيع أن ندحض هذه الدراسات ونكذب هذه الأرقام ، وكان بودنا لو استطعنا ذلك : حتى نبقى شعباً صامداً محاصراً يتحدى الجوع والفاقة ، ويواجه المؤامرات التي تنال منه . ولئن حاولنا إلا أننا لن نكسب أحداً ولن يصدقنا الآخرون ، لأننا نحن غير مقتنعين بما نقول فيما يجري على الأراضي من ارتفاع لأسعار المتر الواحد ، والذي فاق ألف مرة ما كان عليه ، يجعل حجتنا ضعيفة . إن انعكاس الغلاء والارتفاع الفاحش لأسعار الأراضي ، لا ينعكس على الأحياء فقط ، بل طال حتى الأموات رحمهم الله . لقد كتب لي زيارة مقابر قطاع غزة كافة مشاركاً في تشييع الأموات ، وخلصت إلى النتيجة التالية : إذا كان سعر الغرفة الواحدة للأحياء اليوم تفوق العشرين ألف دولاراً ، فإن سعر القبر سيصل إلى عشرة ألاف دولاراً . لأن المقابر المعتمدة اكتظت بالأموات وكثيراً ما تحدث مشاحنات بين ذوي الأموات التي لم تشهر مقابرهم وبين الباحثين عن أماكن ليواروا أمواتهم . أنظار المستثمرين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين تتجه لقطاع غزة لإقامة مشاريع متعددة ، ووصلت طلائعهم لاستطلاع الأوضاع ، فكان أن راق لهم وجود الأيدي العاملة لارتفاع نسبة البطالة ، ولكنهم اصطدموا وصدموا ، عندما تأكد لهم أن مشاريعهم لن يكتب لها النجاح لغلاء الأراضي ، فقرروا وقف التفكير في مشاريع الاستثمار . يبقى السؤال مطروحاً : من المتسبب في ارتفاع اسعار الأراضي ؟ ومن يحمي شباب الوطن المتطلعين إلى العيش في وطنهم؟ أليس معنى هذا دفع أبناء الوطن إلى الهجرة ؟ وكيف يمكن تطوير اقتصادنا ، وإقامة البنية التحتية من مؤسسات بديلة لتلك التي دمرها العدوان والاحتلال ؟ قطاع غزة يضيق بأهله ، وما يزيد الطين بلة ما يترتب على ارتفاع أسعار الأراضي بشكل يفوق التصور . فهل من رؤيا جديدة لصالح فقراء الوطن ؟ أم أن الوطن سيصبح فقط ملكاً للأثرياء ؟ .