خبر : جاذبية فرنسا من ميتران إلى هولاند ..بقلم : حسين حجازي

السبت 12 مايو 2012 08:54 م / بتوقيت القدس +2GMT
جاذبية فرنسا من ميتران إلى هولاند ..بقلم : حسين حجازي



احتفلنا شباباً يافعين، اشتراكيي الهوى، في بيروت، بفوز فرانسوا ميتران، الانتصار الأول للاشتراكيين في عاصمة الكومونة الثورية القديمة، باريس. سلاماً باريس الاشتراكية في العام 1981 لأول مرة في عهد الجمهورية الخامسة، وتبادلنا كؤوس الشاي في المقهى نخب تحية انتصار اليسار، وردّدنا ساخرين أغنية الشيخ إمام الهازئة، زمن الحركة الطلابية في الجامعات المصرية،" فاليري جيسكار دستان والست بتاعه كمان" وداعاً لليمين، وقد انتصر اليسار. وكتبت في صحيفة بيروتية عن انقلاب أيار 1981 مقارناً بأيار كومونة باريس، إضرابات عمال مصانع ليون وعمال شيكاغو، التي صنعت يوم العمال العالمي في الأول من أيار. سلاماً فرانسوا هولاند، الانتصار الأول منذ 17 عاماً، وبعد رحيل ميتران، لكن الفرنسيين المفتونين حتى بلغة الجسد، لم يفتهم في ذروة النشوة، بميتران الجديد، أن يلاحظوا حتى التماثل في طريقة الإشارة باليد بين الرجلين. الأناة والهدوء، كرجل يفكّر بما يقول، وحتى الملصقات الانتخابية والشعارات، الجمل والكلمات، هي نفسها، تذكّر بحملة ميتران. سلاماً للاشتراكية في فرنسا الضلع الثالث في هيكل وقلب القارة الأوروبية، موطن الرأسمالية الأول والقديم، فنحن حتى وإن أمسينا كهولاً، نظل اشتراكيي الهوى، والوداع نيكولا ساركوزي رئيس الأغنياء، وقد قال السيد المسيح قديماً: "لو أن الجمل يدخل من خرم الإبرة، يدخل الأغنياء في ملكوت الله"، وقد كان هذا عقاباً وانتقاماً واضحاً، أشبه ما يكون بصدى للربيع العربي، في ثورة الأحياء الفقيرة والمهمشة على حكم اليمين، ويقظة باريس خزان ومستودع ومرجل الأفكار الثورية الراديكالية، العظيمة في القارة الأوروبية، على مدى مراحل التاريخ، جان جاك روسو، وديدرو، وفولتير، ومنتسكيو، آباء وأنبياء عصر التنوير، وصولاً إلى جان بول سارتر، وألبير كامي، وسيمون ديبولفار، ورجيس دوبريه، وحتى روجيه جارودي، وجورج مارشيه. إن حدة تغلب أفكارها وشهرتها، كشهرة عطورها وأزيائها، ساركوزي الصارخ، الحار والمندفع، مقابل هولاند الرخو البطيء الهادئ، ولكن الحاد اللسان والمهاجم خصومه، بأقذع الصفات. وهكذا هي فرنسا، مثل نغمات صوتها، تجيد القدرة على تلوين نبرتها في كل مرحلة، لكنها لا تغير جلدها بالمطلق، وبهذا المعنى أخيراً يجب أن نضع انقلاب أيار الأخير. إن اشتراكية فرانسوا ميتران، وفرانسوا هولاند لا تشبه الاشتراكيين الطوباويين أبطال الكومونة الفوضويون الثوريون، وبالتأكيد ليست هي اشتراكية ماركس ولينين والأممية الثانية، ومن وجهة نظر هذه الأخيرة، الماركسية اللينينية، فإنها اشتراكية أقرب إلى النزعة الإصلاحية والإنسانية، زمن السجال الفكري في مستهل القرن الماضي. اشتراكية ضمن عباءة الرأسمالية، ولكن كدعوة لأنسنة هذه الرأسمالية، والحد من نزعتها المتوحشة، اشتراكية ضد انحراف الرأسمالية، وكبح جماح هذا الانحراف. وعلى هذا النحو يمكن فهم التحول في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، على خلفية أزمة الرأسمالية، بعد انحرافها إلى رأسمالية متوحشة. إنه السبب نفسه، الذي جاء بباراك أوباما في أقوى حصن لهذه الرأسمالية، والذي جاء بالاشتراكيين في إسبانيا، ولاحقاً باليسار الجديد في اليونان، ويضع اليوم ألمانيا ميركل، ومجمل السياسة الاقتصادية الأوروبية، في قلب العاصفة، فإما إعادة لجم هذه الرأسمالية، وإما الطوفان، والانفجار اليوناني اليوم نموذجاً. فهذه أزمة ربما على غرار، أزمة 1930، لا تطرح سوى حل جذري. من هذه الزاوية إذن في هذا المقترب، يبدو التحول الراديكالي الوحيد في السياسة الخارجية لفرنسا، هو أوروبي على وجه التحديد. الاتفاق داخل أوروبا على سياسة موحدة، تحدد وجهة السفر من هنا. وهنا نصل إلى ما يخصنا في الشرق الأوسط من هذه السياسة لنقول: إن التغيير الوحيد المتوقع ربما في النبرة، إيقاع الصوت، لكن محتوى السياسة الخارجية سوف يظل محافظاً على استمراريته، الشكل التطوري السابق، ببطء إذا شئتم، من التحول الذي أحدثه ميتران. وهنا لعله من الجدير ذكره بهذه المناسبة، أن السياسة الفرنسية، تجاه القضية الفلسطينية، لم تشهد تحولات، تغييرات راديكالية بتقلب الحكومات، والرؤساء المتعاقبين في قصر الإليزيه، خلال العقود الثلاثة الماضية. وإن كانت ثمة دلالة هنا باعتبار ميتران هو النموذج، والملهم بالنسبة إلى هولاند، فقد كان ميتران هو أول من استقبل عرفات وتحدث في الكنيست الإسرائيلي عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وكان ميتران وكرايسكي المستشار النمساوي، وجورج بابندريو الاشتراكي اليوناني، هم حلفاء عرفات وعرابو إدخال المنظمة في العملية السياسية. في عهد جاك شيراك تطورت هذه الصداقة والذي قال لعرفات: "لكم صديق في فرنسا"، ونظمت جنازة لعرفات في باريس تليق بأبطال فرنسا العظام. وهل نقول أيضاً إنه في سجل ساركوزي تم اعتراف فرنسا بعضوية فلسطين كدولة في اليونسكو. والحقيقة أن إشارات التحول الأولى في الموقف الفرنسي، يمكن تحديدها في العام 1968، في عهد الجنرال ديغول، الذي ثار عليه في أيار من السنة نفسها، سارتر إبان الثورة الطلابية في أيار التي اجتاحت أوروبا كلها وحتى أميركا في العام نفسه، حين أغارت إسرائيل على مطار بيروت، آنذاك أوقف ديغول تزويد إسرائيل بالسلاح الفرنسي، طائرات الميراج، بعد إدراكه أن تعاظم قوة إسرائيل الإقليمية يمكن أن يهدد مصالح فرنسا في المنطقة. وقد عبر عن ذلك ديغول، بالتحذير الشديد الذي وجهه إلى بن غوريون: "أن احذروا آفة الغرور التي افترست البطل إخيل" بعد أن كانت فرنسا المزود الأول للسلاح الإسرائيلي. إن الدول الكبيرة غالباً، ما تقتفي سياستها مصالحها، وهذا هو مغزى حقيقة أن أولوية العلاقة، مع أوروبا والخروج من الأزمة الاقتصادية، تغيير المقاربة في مواجهة الأزمة، هو ما استأثر على موضوع الحملة الانتخابية، والسجال الداخلي، ولكن ميتران الذي وصف في حينه، بلويس الرابع عشر، وحتى بنابليون بونابرت، إن الجمهوريات أيضاً تحب التماهي مع هيبة ورموز الملكيات القديمة، فإنه هو الذي لاحظ أن هيبة مقام رئيس فرنسا، إنما تعيد تشكيل الرئيس الجديد، على صورة جديدة، تكشف عن بعض الخفايا الغامضة، وهكذا ربما عرفنا، في وقت سابق بعض هذه الخفايا في الزوايا المظلمة في شخصية ميتران، المفتون بآثار المصريين، كما في عشق النساء، ذاك الفيلسوف الذي يتحدث بهدوء، ولكن الذي أحدث تغييراً في نظرة فرنسا، لنفسها وصورتها في العالم، كما في صورة أوروبا التي كانت حتى ذلك الوقت، يقتصر دورها في اللعبة الكبيرة، على ما تحدده أميركا لها من هوامش. ومع ميتران بدا التحول إلى الشراكة مع المتوسط، بدلاً من الاقتصار في هذه الشراكة على ضفتي الأطلسي. كسول، اتكالي مراوغ، يتهرب من المواجهات، هذا هو رأي رفيقته التي عاشت معه 24 عاماً، قبل انفصالهما، ومجرد كادر حزبي لم يكن وزيراً، أو يتبوأ منصباً عاماً مهماً، وهذا رأي الصحافة الفرنسية فيه، فما الذي يستطيع أن يحدثه في فرنسا، وأوروبا والعالم، وإزاءنا نحن الفلسطينيين؟. المسألة واضحة: نحن ننتظر منه أن يكمل ما بدأه ميتران، وتوقف عنده ساركوزي، الاعتراف بعضوية فلسطين في الأمم المتحدة، والخروج نهائياً من قواعد اللعبة التي تحددها أميركا في الشرق الأوسط. أما في سورية فإن بشار الأسد يكفيه أنه ساركوزي سقط وظل هو في الحكم، ومن المؤكد أن" أصدقاء الشعب السوري" التحالف ضد النظام السوري، ليسوا سعداء بتغيير الخيول الفرنسية، في ذروة المعركة، فقط رجب طيب أردوغان كان مسروراً وطالب ساركوزي بأن يكون عند كلمته بالاعتزال السياسي. لكن التغيير في فرنسا يبقى في الواقع والجوهر هو التغيير الممكن منذ الثورة الفرنسية وحتى اليوم. فمن فرنسا إنما تهب الرياح التي تنفخ في روح القارة الأوروبية، الأفكار الجديدة، كما فحيح عطرها، وقد بدأت العدوى تنتقل كموجة تضرب القارة الأوروبية من جديد. "إلى اليسار در" حتى في ألمانيا، وإيطاليا، واليونان، وربما هذا هو التحول الذي يكمل الصحوة الحضارية التي بدأت في الأطراف، وتنتظر العناق مع أوروبا اليسارية، فهل يفعلها هولاند ؟ ويكون ذلك بمثابة الانقلاب بل الزلزال الكبير؟ أم أن سياسة فرنسا ليست في المحصلة الأخيرة، إلا صورة عن إيقاع نغمات صوتها، التي تضفي على رطانتها شيئاً من الجمال والجاذبية، ولكن التي لا تحتمل أكثر من الشكل، وهكذا فإن هذه السياسة اقترنت دوماً وعبر مراحل التاريخ، بالإقدام كما التخاذل. خذلان محمد علي والخديوي إسماعيل، المفتونين بحداثة فرنسا وحلما ببناء مصر على صورة نموذجها، العداء لناصر أبو القومية العربية، وترك عرفات يتعرق في حصار بيروت كما المقاطعة، والاكتفاء بالتقدم نصف خطوة زمن ساركوزي وصراع أبو مازن، لانتزاع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، رغم اعتراف ساركوزي بأن نتنياهو كذاب. لكن المسألة في الواقع لم تكن ماذا يمكن أن تفعله فرنسا أو تفكر به وإنما ماذا نحن نفعل لكيما نخلق نموذجنا الذي يطابق صورتنا وعلى مقاسنا. هنا كانت المسألة ولا تزال.