ها هي الأزمات الاقتصادية التي ضربت معظم البلدان الأوروبية تطيح بأحد أهم قادة الاتحاد الأوروبي، الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي غادر "الإليزيه" بعد هزيمة قوية من منافسه الاشتراكي فرانسوا هولاند، الذي سيحكم البلاد خلال الخمسة الأعوام القادمة. الشعب الفرنسي عاقب ساركوزي على أدائه الرئاسي وهو يستحق ذلك، لأنه أضعف فرنسا من الداخل وفي الخارج، ولأنه أقحم زوجته كارلا بروني في الحياة الرسمية، فلم تكن الصحف العالمية تتوقف عن ملاحقة الزوجين وربط حياتهما في الحياة الدبلوماسية الرسمية. لم يحصل الفرنسيون طيلة حكم ساركوزي سوى على الخطاب الجميل، الذي ظل يبرع فيه، فهو وإن وعد بالكثير من الأمور في حملته الانتخابية التي قادها قبل خمس سنوات وفاز على إثرها، إلا أنه عمق من تبعية فرنسا للولايات المتحدة الأميركية، وأضعف من دورها الاقتصادي، فضلاً عن انفلات القارة الأفريقية من قبضة التأثير الفرنسي. نعم، لقد عاقب الشعب الفرنسي ساركوزي على سياسته اليمينية، خصوصاً في مختلف قضايا الشأن الداخلي، ففي حين اشتدت الأزمة الاقتصادية في أوروبا، شد ساركوزي "الحزام" في فرنسا، واعتمد سياسة تقشفية في الداخل، أدت إلى زيادة البطالة خصوصاً في صفوف الشباب، وترهل النظام التعليمي ونقص الكوادر البشرية فيه. هذا لم يحدث فقط في النظام التعليمي، الذي أدى أيضاً إلى تدهور في مؤسسات التعليم الرسمية على حساب تطور المؤسسات الخاصة، بل حتى النظام الشرطي تم تقليصه بالحدود الممكنة، لتجنب تحمل فواتير ونفقات تؤثر على الخزينة العامة. ومع أنه قطّر "الحنفية" المالية على مؤسسات مهمة وحيوية في الدولة، إلا أن ساركوزي طالب بزيادة أجور رئيس الدولة وأعضاء الحكومة الكبار، وراح "يتبغدد" في الزيارات الرسمية المكلفة إلى دول العالم المختلفة، مرة بإرسال طاقم كبير من الموظفين، ومرات بإحضار نجمته ورفيقته كارلا. حتى في السياسة الخارجية، لم تكن فرنسا ضعيفة كما هي الآن مع ساركوزي. حتى مع قيادة الاتحاد الأوروبي، وحيث يفترض بفرنسا توجيه وتحريك هذه القيادة بما تملكه من ثقل سياسي واقتصادي مؤثر في القارة الأوروبية، طبعاً إلى جانب ألمانيا، نلاحظ أن الأخيرة بقيادة ميركل متحمسة لأخذ القرارات المهمة وقيادة الاتحاد في ظل الضعف الساركوزي. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، صاغت مع ساركوزي ما يسمى بالمعاهدة الأوروبية للانضباط المالي، التي تعني تقشفاً مالياً سينعكس ليس فقط على فرنسا وألمانيا، وإنما على الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي، وعلى الأرجح أن هناك شرائح فرنسية كبيرة تعارض هذه المعاهدة. هولاند استثمر معركته الانتخابية في انتقاد المعاهدة الأوروبية، التي قال إنه سيسعى إلى إدخال تعديلات عليها، وإضافة بند النمو، ولذلك فإن أصواتاً كثيرة فرنسية ذهبت لصالح هولاند، لأن هذه الأصوات لا ترغب في زيادة التقشف وتحمل الأوجاع الناتجة عن ارتفاع معدلات البطالة. ومع أن ميركل التي أعلنت صراحةً دعم ساركوزي وتقديمه على أنه الحليف القوي والاستراتيجي، إلا أنها لن تختلف مع الرئيس الفرنسي الجديد، وعلى الأرجح أنها ستعتمد السياسة الناعمة للإبقاء على المعاهدة الأوروبية، مع فتح المجال لإمكانية تعديلها. ولأنه كان قريباً من الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، وكلاهما خرجا من عباءة حزب واحد، فإن هولاند سيكرس سياسة خارجية وسطية، وسيعمل كثيراً على تدعيم وإعادة تأهيل "الكاريزما" الخاصة به، لوضع فرنسا في سكتها الصحيحة أمام العالم. بمعنى أن هولاند قد يعود بفرنسا إلى الدبلوماسية المعهودة أيام شيراك وسلفه من الرؤساء السابقين، ولا يرغب الرئيس الجديد في البقاء بأفغانستان، فهو يطمح إلى الخروج من هذا المستنقع أواخر العام الجاري، على اعتبار أن فرنسا لم تحقق الأهداف المرجوة. وصحيح أن السياسة الخارجية كان لها الأثر المهم في قلب الموازين بين ساركوزي وهولاند، لكن الشأن الداخلي حاز على اهتمام الرجلين، وأيضاً على اهتمام الناخبين الذين يضعون القضايا الداخلية في أولوياتهم الحياتية، وخصوصاً التوظيف والنمو ومحاربة البطالة. ويصح القول إن هولاند لعب على هذا الوتر، وقدم نفسه على أنه مخلِّص الفرنسيين من الورطة الساركوزية، حينما أعلن صراحة عن سعيه إلى خلق وظائف لحوالي 60 ألف شخص في جهاز التعليم، وفرض ضرائب على الفرنسيين الأكثر ثراءً. لكن في كل الأحوال، يبقى هولاند منتظراً الانتخابات النيابية المقبلة في فرنسا قريباً، لأن حسم الانتخابات من شأنه تقوية أو إضعاف الرئيس الجديد، فهولاند الاشتراكي اليساري مع مجلس نواب يميني، ليس هو هولاند الاشتراكي مع حزب اشتراكي. ولو فاز اليسار في الانتخابات النيابية، فهذا يعني نجاحاً له كونه فاز في مجلس الشيوخ والأقاليم والبلديات والحكومات المحلية العام الماضي، وسيسجل ذلك موقفاً قوياً لليسار الذي سيحكم البلاد بدون معارضة حقيقية. لعل اختيار الجمهور الفرنسي لليسار إنما يشكل محاكمة للسياسات الليبرالية التي تؤمن بالعولمة وتحرر الأسواق، هذه التي يرفضها اليسار، ولعل أوروبا مقبلة على المزيد من اليساريين، خصوصاً بعد أن أطاحت الأزمة الاقتصادية بدول أوروبية مهمة، مثل إيطاليا واليونان وأسبانيا. ميركل التي لم تصفق لفوز اليسار بزعامة هولاند في فرنسا، تضع يدها على قلبها من التوسع اليساري الرسمي في أوروبا، لأنها ترى أن هذا الصعود لليسار إنما يؤذي بشكل أو بآخر مستقبل الوحدة الأوروبية، ويفرمل تحرر الأسواق. وفي كل الأحوال يبقى الكلام الفصل عائداً إلى هولاند الذي من المؤكد أنه لن يكون نسخة مطبوعة عن نظيره السابق ساركوزي، فأحزاب الدول الأوروبية مختلفة من حيث العقائد والسياسات والتوجهات العامة، بينما في الولايات المتحدة الأميركية لا يختلف الجمهوريون كثيراً عن الديمقراطيين. قريباً سوف يصل هولاند إلى "الإليزيه"، وقريباً أيضاً ستتغير فرنسا التي أخضعها ساركوزي للضعف الشديد، بسبب احتكاره الجمهورية في شخصه. أخيراً يبقى استحضار المقولة الواقعية التي طرحها الكاتب البحريني الدكتور حسن مدن، حينما اعتبر أن قامة ساركوزي قصيرة على هامة فرنسا العالية، كونه أضعف رئيس عرفته فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. نعم إنها مشيئة فرنسا ومسيرة التغيير، ولعلها حركة التاريخ.