لا ننزل بهم حكم الإعدام، ولكن خلف هذه اللمسة التي تظهر عدواً رؤوفاً على قدر من التمدن، لا يقتل الأسرى، او يعلقهم على اعواد المشاق، فان دافعاً خفياً، ومستتراً هو الذي يكمن وراء هذا التمنع، لا يريد العدو ان يرى أسرانا، وقد تحولوا الى قديسين، أبطال وشهداء على أعواد المشانق، معلقين على صلبان كصلب المسيح. خطر الصورة كما الصراع على جبهة الرموز والعواطف، الوجدان الشعبي لضحاياه وحتى حرمانهم من امتلاك اساطيرهم، والمخرج، الحيلة يهودية بامتياز بدلا من تصويرهم في الوجدان الشعبي قديسين، هنا نحولهم الى مجرد مجموعة من المرضى، المعتوهين، المجانين، المثيرين للرثاء. وقد فقدوا اتزانهم وعقولهم، خلال سني العزل الانفرادي، دون ان نفقد نحن الشياطين، الاذكياء والماكرين، تفوقنا في ادعاء فضيلة الاخلاق، اننا لا نعدم الاسرى. يقول ميشيل فوكو، ان الدولة الحديثة القومية البرجوازية، تخلق تنشأ ويخلق معها ثلاث ادوات، اجهزة: الشرطة عصاة القمع، والمصحات العقلية، والسجون. ولكن في بلد كالسويد والنرويج يتمتعان بطور اكثر تقدماً في التحضر والمدنية، فإن قاتلاً لرئيس الحكومة، او ارهابياً ايدولوجياً يمينياً متطرفاً، انما يتم ارسالهما الى عيادات نفسية بدلاً من السجون. لكن اسرائيل هنا تبدو اكثر ابتكاراً، او ليس اليهودي يوصف بانه الاكثر ذكاء من الاعراق الاخرى؟ انهم يتفقون في النتيجة ولكنهم يختلفون عن السويد والنرويج في اسلوب التحقق منها. هناك عن طريق اجراءات التحليل النفسي المتبعة في تشخيص الامراض العقلية في العيادات للمجرمين، أما هنا في الحالة الاسرائيلية، في استنبات التحقق من هذا التشخيص الاصطناعي من خلال أفران العزل الانفرادي، الذي من المحقق بالنسبة لهم انه سيوصلهم الى النتيجة نفسها. ان سيكولوجية الاحتلال، هو المرض الذي ربما كان يحتاج على مدى مراحل التاريخ الى مثل هذه المعالجة التحليلية، فالاستعمار ليس سوى مرض في حقيقته وتعريفه الأعم، مرض تاريخي، يصيب في فترات محددة بعض الدول، وهنا يمكن للتحليل النفسي ان يجد ميداناً، حقلاً واسعاً ومثيراً، لا يخلو من عناصر التشويق، لإسقاطات عن هذا التماثل الذي تكرر في التاريخ، في الاسقاط السيكولوجي والنفسي، "التحويل" باصطلاحات الطب النفسي، لشعوب عانت من الاضطهاد والنبذ، ولكنها اسقطت هذه المعاناة، الاعجاب المبطن بجلاديها، على ضحاياها. معاناة اليهود في اوروبا والمحرقة اليهودية نفسها، التي تخفي اعجاباً مستتراًَ، وخفياً بالجلاد نفسه، واساليبه. انظروا الى نظرية القتال التي تقوم عليها استراتيجية الجيش الاسرائيلي في الحروب الهجومية دوماً، على غرار التقاليد البروسية والالمانية. دبابات البازنر الالمانية مقابل الميركافا. الاعتماد على قوة سلاح الجو الالماني في قصف مدينة لندن، وتكتيكات هيئة الاركان الالمانية، مقابل تفوق سلاح الجو الاسرائيلي وتكتيكات هيئة الاركان الاسرائيلية. "الغيستابو" المخابرات الالمانية، والموساد والشاباك الاسرائيلي. أفران الغاز الالمانية، وافران العزل الانفرداي للاسرى الفلسطينيين. تفوق العرق الآري، العنصرية النازية، وتفوق العرق اليهودي. اللاسامية العنصرية في ازدراء اليهود، مقابل يهودية الدولة ضد الفلسطينيين، والعرب الذين هم "الأغيار"، وتحقير شأنهم بما في ذلك حتى ازدراء العنصر الشرقي اليهودي. قال هتلر ان "الرايخ الالماني" سوف يعيش الف عام، ويعتقدون هنا بان الصهيونية سوف تعيش وتحتل البلاد، والفلسطينيين الى مالا نهاية. كتب كارل ماركس مبكراً فيما يشبه النبوءة عن المرض الايدولوجي وحلل بنوع خاص، الايدولوجيا الالمانية، حتى قبل ظهور النازية بمئة عام، وكذا الايدلوجيا الصهيونية، قبل ظهور ثيودور هرتزل، بخمسين عاماً. ان ايدلوجيات النخب العنصرية، والعرقية، ما لها إلا مكان واحد هو مزبلة التاريخ، وهذا ما يتضح اليوم فيما يمكن تسميته بالصحوة الحضارية، التي نشهد نشوءها، ظهورها في اطراف المحيط في اسيا وافريقيا، واميركا اللاتينية، بانهيار القيم المعرفية التي تحدث عنها فوكو للحضارة الرأسمالية، للغرب التي انتجت لنا كل هذه البضاعة الفاسدة، الى جانب بضاعتها الصناعية في السوق، فلا الرايخ الالماني صمد عشرة اعوام، ولا الفاشية الايطالية ولا حتي الشيوعية رغم طابعها الانساني بل الاممي ولا ذيل الاسد البريطاني يحيط بالعالم، كما جناحي النسر الاميركي وقبلهم الصليبيون والفرنجة والرومانيون والاغريق. لقد ماتوا جميعا كما مات القديس بطرس الناسك، والبابا اوربان، فاين تذهب العناصر الاربعة المكونة للحياة، بعد ان تنتهي الحياة ايها المعلم؟ يسأل التلميذ المعلم الكبير بوذا الذي يهمس اخيراً في اذن التلميد وقد اعياه السؤال، لا اعرف. لكن بطل ابطال اسرائيل موشي دايان، علم اكثر من بوذا، احضر قبل الموت رؤساء تحرير الصحف سألهم اين ذهب الصليبيون؟ وقد لاحظ ان الجواب على السؤال اعياهم فهمس لهم : "لقد ذابوا هنا في رمال هذه الارض" والحق انه استحق هذه البطولة، ولكن في ادراكه فلسفة التاريخ فهذا هو مال اسرائيل ايضاً، وان اهمية هذا الاختراق المعرفي الذي يخفي شكاً عظيماً، في مصير المشروع، انه يصدر عن رجل يعتبر احد صناع هذا المشروع اي انشاء اسرائيل. لو كان الامر يتسع لقليل من التفكه، لاقترحت ان يسأل محامي عبدالله البرغوثي، القاضي الذي أصدر حكماً عليه يصل مجموعه الى ستة آلاف سنة، ان كانت حكومة القاضي المتفكه، تستطيع ان توقع على تعهد بضمان بقائها ستين عاماً أخرى؟ ليس ثمة جواب مخرج من هذا المرض، مرض الاحتلال، سوى الذهاب الى دولة ثنائية القومية، تتسع لجميع سكانها والاديان التي يدينون بها امام الله، لكن هاكم الى اين يصل استشراء المرض، الى احياء واستلهام نظرية جابوتنسكي، في هذا الاسقاط المبتكر والاخير اقامة الجدران والاسوار. جدار على الحدود مع مصر، وآخر مع لبنان وثالث مع سوريا وقبل ذلك الجدار العازل والكبير مع الفلسطينيين، نوع من مرض بل هوس اقامة الجدران. هذه الدولة مريضة بالجدران كما اميركا مريضة بالقروض، يحاربون من وراء جدران محصنة، قال القرآن ولكن لو تأملنا قليلاً في دلالة هذا الهوس، العصاب الهستيري بالجدران العازلة، المرض الذي يصل الى حد الوسواس، انما يعكس حقيقة دولة بلغ عصابها النفسي حافة الخطر، ليس خطراً على اعدائها وانما على نفسها، دولة في عقلها اللاواعي، وهنا بيت القصيد، لا ترى نفسها جزءاً طبيعياً في محيطها، ليس لديها القدرة على التعايش مع هذا المحيط او التصالح معه، وهذه هي الاشارة التي يرسلها هذا الهوس ببناء الجدران الى المستقبل، وهي رسالة في غاية الاهمية والدلالة، يشير فيها هذا العقل الباطني الى شك عميق يتعلق بالمصير بل بالوجود، القلق حول هذا الوجود. ان يونغ عالم النفس الالماني رفيق فرويد، والذي تحدث مطولاً عن "اللاوعي الجمعي" هو الذي لاحظ ان الصراع في نهاية المطاف في مثل هذا الوضع بيننا وبين الاسرائيليين انما يدورعلى محور اللاوعي الجمعي وليس الوعي الجمعي. على العقل الباطني الجمعي للشعوب، والامم، المفصل الحقيقي في كل ما يتعلق بالصراع. وهكذا فان المفارقة، التناقض، الخلل الاستراتيجي، ان اسرائيل في كل ما تفعله من اجراءات تتسم بالقسوة والوحشية، انما تخوض صراعاً بائساً في الاتجاه الخطأ باعتبارها استراتيجية فاشلة، اذا كان كل قوامها، هدفها هو "كي وعي الفلسطينيين" طالما ان حسم هذا الصراع، هو في مكان آخر، وحيث ما يحدث هو العكس، ان الفلسطينيين هم من يكوون اللاوعي الاسرائيلي، ويحققون هذه العملية بنجاح، وهذا ما يعنيه هذا الاضراب، من خلف جدران العزل، حين يظهرون هكذا بغتة من معازلهم الانفرادية، يلوحون بشارات النصر، انها دولة مريضة، تعاني من مرض خطير. وقد حدث ما يشبه هذا الامر في التاريخ من قبل، ولكن جميع هذه المشاهد التي تكررت انما حدثت في توقيت مشترك ومتشابه، عند لحظة غروب الاستعمار. لم يصلوا الى الجنون المستنبت في الزنازين الانفرادية حتى بعد عشر سنوات، يا لهول وقسوة العدو. لكن الواقع والحقيقة، ان هذا الجنون الجميل والرائع هو امر محقق، ولا يمكن انكاره، اذا كان ليس سوى مناضلين ثوار، قديسين وابطال على شاكلة وصورة احمد سعدات، عبدالله البرغوثي، عباس السيد، مروان البرغوثي، وارنستو تشي جيفارا، ومارتن لوثر كنج، تميزوا بهذه اللوثة كما هراطقة الكنيسة العظام، والرهبان، من مخالفة الصواب، الذي يصل الى حد الجنون الخلاق، وكان دوماً المحرك الخفي والعظيم للتاريخ، كما الافكار الكبيرة. ان الاحتلال يقدس القوة، وهو بذلك يفكر بطريقة واقعية مادية اذا كان محور هذا التفكير هو القوة وحسابات وسائط القوة على حد سواء. بينما حسابات وقوة الشعب الخاضع للاحتلال غير مرئية، محورها اللاوعي الباطني الجمعي، اللاوعي بوصفه الفكرة الخلاصية كما التفكير الحالم الذي يتفوق على القوة المادية.