نخلةٌ تتمايل سعفاتها وكأن بها قشعريرةَ أول الليل، تحملها نسائمُ غربية مالحة، فيظهر لك وأنت مضطجع على رمال كروم الشيخ عجلين نجمٌ يلمع بين سعفتين، وفي سماء المشهد هلالٌ مقعر إلى الأعلى، تخفيه برهة غيماتٌ متباعدة، لكنها حاضرة على امتداد الأفق، كمسافرين في أكثر من قافلة في الطريق إلى الشمال، تمر أسفلها وفوقها أسرابٌ من الطيور العائدة إلى أوطانها. مشهد سياحي بامتياز، ليست مفرداته النخلة والنجم والقمر وما في السماء وحسب، فأنت أيضا هنا، تَرى وتُرى، تتحرك وتسكن، تشعر بما حولك ويشعر ما حولك بك، كقطة رضيعة تتقرب إليك في غياب أمها، أو غراب يصر على أن يُعكّر عليك هناءك وأنت "تُلقّط" ورق العنب ، وربما نملة لا يُضيرها هيمنتك على البقعة فتعتليك في طريقها إلى بيتها، حاملة "فتفوتة" من الخبز. تَتَّقِد فيك رغبة مفاجئة في التحليق، وصوت الموج يجرفك بإغواء صريح، تتجه عيناك بانحياز إلى يمين المشهد، الأكثر احتفالية من يساره القاتم، يعيدك بإيحاءات ألوانه التي تمتزج فيها أرجوانية الشفق بفضية القمر بسواد الليل إلى مشهد عمره نحو عقدين من الزمن، يوم دخولك الوطن أول مرة، كانت الدموع لغة التعبير الوحيدة، وهمس يعلو بذهول "هاي هيه فلسطين".. قلتها ورفاقي العائدون، ونحن نسافر من أريحا إلى غزة، أول مرة، "الله ما أجمل بلادنا"، ثم تبادلنا سردَ رؤانا للوطن في الأحلام وصورته الحقيقية، أجمعنا على أن الحقيقة أجمل، وانسابت أحلامنا بالوطن الواحد، شماله وجنوبه، ثم صمتنا إجلالا واندهاشا بالمشهد الأخاذ. أذكر أني وزميلي العزيز حسن البطل كنا نجلس على شرفة منزله القديم في سردا غرب رام الله ذات مساء، نلعب النرد ونتسامر بعد غياب، هَتَفْتُ له "أنظر، نحن والقمر جيران"، وافقني الرأي متباهيا بمنزله ذي الموقع الفريد، الذي يظهر القمرُ قريبا جدا منه ومنخفضا وكأنهما جاران على تلتين شقيقتين، كاشفا بسحر غير مألوف جمال سردا وأشجارها، عاكسا على روحينا ألقه ودفئا وبراءة. اندثرت أحلامنا في غزة سنغافورة والممر الآمن بينها والضفة، دون أن يندثر حلم الوطن الواحد، الذي تحمل بطاقته السياحية صورةً لبحر غزة وجبال الضفة تحت قمر واحد.. نعلم أن إسرائيل لا تريد لأحد سواها أن يحلم، وتعمل على الدوام لإجهاض أحلام الحالمين، وتعلم أنهم سيظلون يقاتلونها بكل وسيلة إلى أن تقبل بحقيقة أن الضفة وغزة شقان فلسطينيان، بالرغم من قناعة الأغلبية منا بأن الحلم يبدو أقل واقعية إزاء الحقيقة المرة التي يكرسها الانقسام، الذي تكاد ريحه تُصَدّع الجبل وتجعله آيلا للانهيار، وليس فقط للاهتزاز، ريح تعصف بكل مفردات مشهد الوطن وقدسيته.