غزة / سمر الدريملي / سما / لا تملك من الزمن الحاضر سوى عقربي "وقت" في ساعة يدٍ صغيرةٍ وقديمةٍ ترتديها بيدها الخشنة المليئة بالتشققات وآثار التراب و"شحبار" النار التي تستخدمها للطهي والتدفئة وتسخين ماء الاستحمام.. الحاجة "سالمة" تصحو وتغفو.. وتغفو وتصحو.. وكأن الكرة الأرضية حولها ثابتة لا تتحرك.. والحياة راكدة لا تتغير.. فلا وجود لـ "حماس" و"فتح" هناك.. ولا دردشة في وقت العصرية حول المصالحة الوطنية.. ولا دراية بثورات التغيير التي تجتاح العالم العربي الآن.. ما يشغل يومها هو تجميع الحطب وإطعام الخروفين.. والحفاظ على لفّة السكر وربطة الملح المعلّقتين في سقف "الزينجو" من الرطوبة والحشرات.. ونظافة أواني الطبخ الثلاث الوحيدة التي تملكها "البراد.. الطنجرة.. المقلاة.." وعندما يحلّ الليل تخلد للنوم، بينما قد يخلد قبلها ثعبانٌ بالقرب من فرشتها البالية.. "سالمة" التي يبدو أن عمرها تجاوز الستين عاماً؛ حيث لا تدري كم من العمر بلغت بالضبط، تعيش في منطقةٍ مهمّشة من قطاع غزة، وبالتحديد في رفح منطقة شرق العبور جنوب القطاع، هي وعدد من الأسر الفلسطينية تحيطهم أشجار الصبّار المسكونة بالثعابين والحشرات الزاحفة.. ويبعد عنهم كل شيء يتعلق بالصحة أو التعليم أو أي مظهر حضاري على الإطلاق.. ويزيدهم الجهل والفقر المنتشر بينهم انغلاقاً وبعداً عن العالم.. كما وينتشر بينهم زواج الأقارب والزواج المبكر. تقول "سالمة" (وهي لاجئة من بئر السبع): "تزوجت وعمري 16 عاماً، وعندي ولدان وأربع بنات جميعهم تزوّجوا ويعيشون حولي، كما فقدت ابنةً لي عمرها 7 شهور، حيث ماتت من شدّة البرد".وتضيف: "..أبوي وأمي ما علّموني.. ولما أبصم على ورقة بأخاف.. لأني ما بعرف على إيش بأبصم.. كان نفسي أتعلم ..كان بأمسك الدنيا كلها بإيديا الاثنتين". وتعيش "سالمة" في غرفة جدرانها وسقفها من "الزينجو" وهي فارغة تماماً إلا من فرشة وبعض الأواني الملقاة هنا وهناك، ومرآةً صغيرةً معلّقةً بسقف الغرفة، ويجاورها أولادها في غرف صغيرة، وتعتمد "سالمة" على تربية الخراف في الإنفاق على حياتها وعلى حياة أولادها؛ حيث كلما كبر خروف باعته، كما تقوم بالاستدانة في كثير من الأحيان كي تؤمّن قوت يومها". تعاني "سالمة" من انزلاقٍ غضروفيٍ في ظهرها، كما تعاني من الضغط والسكر، ولأن الخدمات الصحية لا تتوفر في مكان سكنها تُضطر للذهاب للمركز الصحيّ في المدينة؛ والذي يبعد خمسة كيلومترات تُضطر لسيرها في كثيرٍ من الأحيان ما لم تجد وسيلة نقلٍ تُقلّها من مكانها النائي خارج حدود الحياة المدنية. خارج نطاق الخدمة يؤكد "محمود" (الابن الأصغر لسالمة، ويبلغ من العمر 22 عاماً، ومتزوج من إحدى قريباته في الخامسة عشرة من عمرها) أنه بالكاد يحصل على عشرة شواقل مقابل عمله عند بعض المزارعين، حيث يجلب بعض الخضار، لكنّ العمل متقطّع وبالكاد يسدُ رمق عائلته، مما يضطره للاستدانة من الآخرين كي يؤمنّ متطلبات العائلة من ملابس ودواء. أما زوجته "صابرين" فتعبّر عن مللها من نظام حياتها الذي يُكرر نفسه؛ فتقول: "زهقت من شغل الدار، ومن نفس الوجوه، نفسي أكمل تعليمي بس زوجي مش راضي، خلّوني أسيب المدرسة من الصفّ العاشر". وترتدي "صابرين" تنورةً طويلةً قديمةً ذات ألوانٍ مزركشةٍ، وبلوزة زرقاء، وواضح جداً أنها كبيرة عليها، وترمي إشارب على رأسها وعلى رقبتها بشكلٍ مهملٍ وغير منظّم، وترتدي قبقاب مقطّع وبالٍ يمسك بعضه بعضاً". سألتها: "عمرك يا صابرين رحتي هناك..؟ بعيد..؟ أرأيتِ غزة..؟ فنظرت نظرةً بعيدةً كلها أملٌ وشوقٌ قائلةً بملء فيها بتنهيدة طويلة: "لا". يُذكر أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستبيح هذه المنطقة كلما قام بعمليةٍ عسكرية واسعة أو ضيقة في قطاع غزة، حيث يقوم الجنود الإسرائيليون بتمشيط المنطقة والسير فيها مشياً على الأقدام، والقيام بعمليات المراقبة من خلالها. كما تعاني المناطق المهمّشة والحدودية للقطاع من وجود نسبة كبيرة من النساء الأميّات، ونسبة بالكاد تُذكر من الحاصلات على الشهادة الجامعية أو الدبلوم، وسبب تراجع التعليم في تلك المناطق هو انتشار الفقر، وتفضيل زواج الفتاة على تعليمها، وجهل الأهالي، وعدم الوعي بأهمية التعليم، وبُعد المدارس عن المنازل. أيام متشابهة لم يكن هناك باب دار لندقّه أو جرسٌ لنقرعه، بل كل ما هنالك صفيحة من الحديد ملقاة على الأرض بالعرض، رفعناها ونادينا ومشينا بضع خطواتٍ حتى خرجت لنا "تمام . م" تلك المرأة التي لم تتجاوز الأربعين عاماً، وتعيش في هذه المنطقة الفقيرة هي وأسرتها المكوّنة من (9) أفراد أكبرهم (23) عاماً وأصغرهم طفلة لم تتجاوز الأربعة أشهر، وجميعهم لم يتلق التعليم ما عدا ابنة وحيدة هي "كفاح" البالغة من العمر (19) عاماً، حيث درست حتى الصف الحادي عشر، ومن ثمّ تركت الدراسة بعد زواجها من أحد أقاربها منذ (20) يوماً. تقول "كفاح": "تركت الدراسة لأن زوجي طلب مني ذلك، وأنا تشجعت لذلك لأنه فِشّ مادة، والمدرسة بعيدة جداً، ولا يوجد مواصلات في المنطقة". وتعتبر "كفاح" أن أجمل شيء حدث في حياتها هو ارتداؤها "البدلة البيضاء" التي منذ رأتها تمنّتها ودفعت ثمنها 200 شيكل، حيث عُقد قرانُها في غرفة صغيرة في بيت أهلها. أما والدتها فتعبّر عن مللها من الأيام "التي تشبه بعضها بعضاً" وتقول: "أنا خايفة على بنتي من الفقر.. إحنا العجايز بندبّر حالنا، بس هما اللي زيهم جهلة". وهل تعتبرين نفسك "عجوزة"..؟ سألتها فأجابت: "والله ما أنا عجوزة؛ بسّ الوقت خلاّني عجوزة".وتعتمد أسرة "تمام" -التي تمتد جذورها لبقايا العائلات الفلسطينية في شبه جزيرة سيناء "المصرية" جنوب قطاع غزة- على تربية بضعة أغنام في تدبير مصاريف حياتهم اليومية. "تمام" وبقية أفراد أسرتها التفّوا حولنا وأصرّوا إلا أن نحتسي الشاي معهم، هم لم يريدوا تركنا نمضي، فقد تآنسوا بنا -كما علّقت تمام- وشعروا بالتغيير في ظل روتين حياتهم "القاسي" الذي كُسر بهذه الوجوه الجديدة التي أطلّت عليهم، وبالكاد استطعنا أن نقنعهم بأننا يجب أن نغادر. ممنوع الاقتراب..! تُعتبر المناطق الحدودية في رفح ومنطقة شرق العبور تابعةً لبلدية الشوكة، وبهذا الإطار قال رئيس بلدية الشوكة "منصور بريك": "هذه المنطقة في الجنوب الشرقي لقطاع غزة تعاني من الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، وفي كل اجتياح يتم تدمير الكثير من الدفيئات الزراعية، وقتل الدواجن، والأكثر تأثراً من ذلك المرأة والطفل، حيث يصابون بضررٍ كبيرٍ نتيجة انقطاع مصدر الرزق" مشيراً إلى أن "الاحتلال الإسرائيلي يمنع إنشاء وتعبيد طرق في المنطقة الحدودية عند معبر رفح، بل إنه في بعض الأحيان يعلن أنها منطقة ممنوع الاقتراب منها". وأكد على: "ضرورة زيادة نسبة الوعي والتعليم والتثقيف لدى النساء في كل المناطق الحدودية من القطاع، لاسيما هذه المنطقة، وذلك بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والأهلي والحكومي كافة، وتوفير الدعم اللازم لتخفيف معاناة النساء في تلك المناطق". وحول السياسات والتدابير التي تم اتخاذها لخدمة الطالبات في المنطقة قال: "نحاول جاهدين أن ننشر ثقافة التعليم في المناطق الحدودية في رفح، وقد افتتحنا مؤخراً مدرسة "بنات الشوكة الثانوية" في منطقة الشوكة الوسطى، وبذلك توفر على الكثير من الطالبات في منطقة شرق العبور السير 6 كيلومترات على الأقدام، كما سلّمنا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأنروا" ووزارة التربية والتعليم ثلاث قطع أراضي لبناء مدارس فوقها في مناطق مختلفة من الشوكة، وكي يتحقق ذلك نحن بحاجة لمزيدٍ من مواد البناء والدعم المالي". انقطاع التمويل من جانبه أوضح "محمد العروقي" (مدير التنسيق الوطني لمكتب اليونسكو في غزة) أن "اليونسكو" (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) تقدم خدمات لتعليم كبار السن من خلال برامج محو الأمية؛ خاصة النساء، لكن –للأسف- التمويل في هذا المجال في العام الماضي والجاري في حالة انقطاع". منوهاً إلى أن "منظمة اليونسكو حالياً لها بعض الأنشطة المتواضعة فيما يتعلق بتشجيع النساء على التعليم، من ضمنها تنظيم فعاليات ومؤتمرات تدعو النساء لضرورة مواصلة تعليمهن، وتكريم النساء اللاتي يواجهن الظروف الصعبة ويتعلمن في سنّ متأخرة، كما يتم عرض قصص نجاح هؤلاء النسوة على مستوى الأسرة والمحيط الاجتماعي". وتابع "العروقي": "هناك برنامج آخر يهدف لتعزيز التعليم في المناطق الحدودية على مستوى قطاع غزة مع (20) مدرسة ثانوية، من خلال عقد ورش توعوية وتثقيفية للطلبة من كلا الجنسين؛ لمواصلة تعليمهم، وعدم ترك مقاعد الدراسة لأي ظرفٍ كان". بينهن قياديات ورياديات بدوره قال "أمجد الشوا" (مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية) أن: "المناطق الحدودية في قطاع غزة -ولا سيما منطقة شرق العبور- تُعتبر من أكثر مناطق القطاع تهميشاً في مختلف الخدمات، سواء المقدمة من الجهات الحكومية أو الأهلية، كما أن حجم التمويل المخصص لهذه المناطق قليل". مشيراً إلى أنها بحاجة لمشاريع تنموية وليس فقط مشاريع إغاثية، واستهداف مختلف القطاعات والفئات؛ وعلى رأسها المرأة". وأضاف: "النساء في هذه المنطقة بأمسّ الحاجة للتثقيف والتأهيل المجتمعي والتعليم، وعند العمل معهن قد نجد بأن هناك العديد منهن يصلحن أن يكنّ نساء قياديات ورياديات في المجتمع الفلسطيني، وقد يكشف العمل معهن العديد من قصص النجاح المبهرة". وعبّر "الشوا" عن أمله في أن "تساهم المصالحة الوطنية في إيجاد حكومة جادة تضع في الحسبان وضع خطة وطنية تشارك فيها كل أطراف المجتمع المدني والحكومي، لتحديد الاحتياجات الحقيقية لهذه المنطقة والمناطق الشبيهة لها في قطاع غزة، لتطوير وتنمية مختلف القطاعات والفئات فيها، بالإضافة لتدريب وتأهيل المؤسسات الفاعلة في تلك المناطق". يُذكر أن "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني" أصدر تقريره السنوي حول النوع الاجتماعي والتنمية عام 2006 في فلسطين، حيث خلص التقرير إلى عدد من النتائج أهمها ارتفاع نسبة القراءة والكتابة لدى الأفراد فوق 15 عاماً بنسبة 88.9% للإناث عام 2005، بفارق 5% عما كانت عليه عام 2000، حيث بلغت وقتها 83.9%، كما تمّ رصد الارتفاع بالنسبة للذكور؛ حيث بلغ 96.9%. خارج الحقل الصغير سُمرة اللون والعيون البراقة شديدة الملاحظة سمة نساء تلك المنطقة، حيث تتجلى أحلامهن البسيطة في بعض الرفاهية: كهرباء وماء دون انقطاع، تعليم مجاني، ومدارس قريبة تستطيع الفتيات الالتحاق بها دون تكبيد أسرهن عناء الرسوم أو المواصلات.. العالم هو محيطهن الصغير، وعائلاتهن الصغيرة لا تعرف بما يدور خارج الحقل الصغير الذي يزرعن فيه بعض الخضروات لحاجة البيت أو بعض الخراف التي تؤنس أيامهن بصوتها؛ مع صخب الأطفال الذين يلعبون في باحة الدار.. لا يعرفون أن خارج الأسوار عالم "ديجيتال" و"إنترنت" وملاعب أطفال لا يمكن لهم تخيلها.. لا أزياء أو موضة .. لا راديو أو تلفاز..! النوم المبكر والصحو المبكر وأحاديث متكررة حول إبريق الشاي أبرز ملامح الحياة هناك..!