خبر : خواطر شتاء: تأملات في الأسطورة والحياة ... بقلم: حسين حجازي

السبت 25 فبراير 2012 09:47 م / بتوقيت القدس +2GMT
خواطر شتاء: تأملات في الأسطورة والحياة ... بقلم: حسين حجازي



ليس سوى شتاء قاسٍ، مثل هذا الشتاء لا يتكرر إلا مرة واحدة ربما كل جيل. ما يضعنا أمام ضعفنا، ضالتنا، أمام جبروت الطبيعة. حينما تباغتنا هكذا فجاءة كنوبة من الفجور، الغضب، تذكرنا بسيرة الإنسان القديم، طفولة الجنس البشري. حينما كان صراع الإنسان الأول مع وحشية الطبيعة محاولاً ترويضها، قبل أن ينتقل ويتحول لاكتشاف وحشيته هو نفسه وحشية بني الإنسان، العدو من الداخل هو نفسه ولم يفلح إلى الآن، في ترويضها. ليس سوى وحشية الطبيعة الأولى، ما أوصل الإنسان القديم، البدائي ما قبل التاريخ لاكتشاف الله والدين، قبل اكتشاف النار ربما او التقاسم الوظيفي، بين اليدين والقدمين وصنع أسلحة الصيد الحجرية المحراث البدائي. فقط شتاء مثل هذا الشتاء يأتي برياح عاتية من بعيد من مكان سحيق بأصوات كأنما صدى لنواح قديم، ظل حبيساً ملايين السنين هناك في مكان قصي معتم، من عتمة الأزل، كأنه بكاء الطبيعة ولم تقوَ على احتمال انفجارها القديم بكاء بصوت أشبه بارتطام جبال شاهقة كأن الطبيعة ثور جريح، تعامة القديمة أمنا في الأسطورة البابلية تنتفض من جرحها انشطارها الى نصفين، نافثة من فمها الرياح الشيطانية الصاخبة، هذا العويل من جهة الجنوب ويردد صدى هذا الصوت تنين البحر، الأمواج التي تريد أن تثور كطوفان. وحين تتحول الثعابين، ثعابين الأرض الى غيوم سوداء، تصد ضوء الشمس عن الأرض، ليعود الكون برهة غارقاً في عتمة الأزل، دياجير الظلمة الأولى. ليس سوى غضب مثل هذا الغضب، ما ينبئ الإنسان القديم الأول بصوت الإله، هذه هي التجربة الأولى ومنها انبثقت فكرة الإنسان عن آلهة السماء والبحار، والعواصف والأمطار، وعن الظلمة والنور قبل ان يبلغ من الحكمة والعمر، السنين رشداً ويصبح فيلسوفاً ويكتشف العمارة والفنون، الرسم، النحت، الموسيقى والشعر. وما هي الموسيقى الرسم والنحت، سوى الوجع. محاكاة لهذا الصدى القديم العظيم من الشعور الإنساني بالألم، الوجع، والخوف، من الموت تحت غضب قوة اعظم منه. أغاني الرعاة الحزينة كما النواح على الأموات ولا نزال نسمع صداها في الأغاني الريفية القروية الى الآن وهو ما يشعرنا رغم إنجازاتنا الصناعية والعلمية بأننا لم ننج بعد من سطوة الطبيعة او قهر هذه السطوة. حين يتضح لنا ان التمدن، انتقال الإنسان من الحالة البدائية الى غزل الصوف، بناء البيوت، انما حدث بتضحية كبيرة دفعها الإنسان بالتخلي تدريجياً عن مناعته الجسدية الأولى، وفقدان هذه المناعة الفطرية. هل ان تقلص وتساقط وزوال الشعر الجسدي إنما كان آخر الرحلة الطويلة التي قطعها الإنسان، في الانتقال من الوحشية المتدثرة بالشعر، الذي يغطي كامل الجسد، الى الإنسان الناعم، وحيث فقط غزارة شعر الجسد على الرجال وخشونة اليد ما يذكرنا بالأصل القديم الذي كانه. ربما تروي لنا هذه الأسطورة البابلية التي وجدت في مكتبة اشور، أول تصور قديم عن قصة الخلق. سفر التكوين الأول، في المعتقدات الدينية القديمة. الذي يرمز إليه انفصال الأرض عن السماء. من جسد الأم الإلهة الأولى تعامة، لكن بالمقارنة مع الأسطورة اليونانية، فإن قتل الأم، يحل بديلاً عن قتل الأب، والزواج من الأم، لكن هنا قد يتخذ نسق الأسطورة الشرقية، مجازاً، التعبير عن بلوغ هذه الحضارة عتبة الانفصال الفعلي عن الطبيعة، إعادة تشكيل الطبيعة، كما تجاوز الرهاب السيكولوجي من سطوتها، الذي يعبر عنه انتصار الابن الإله مردوخ. بالقتل، قتل الأم، الأرض، الطبيعة، القتل الذي يتحول الى شرط، لتتويج الحق الأبوي والإله الذكر، الألوهية الذكورية، بالقطع مع الألوهة الانثوية، وهو ما سوف يستدعي لاحقاً شيطنة المرأة، باعتبارها هي الحية التي أخرجت آدم من الجنة، وتفوق كيدها على الشيطان. لكن ربما كانت تتحدث الأسطورة الشرقية عن الشعور الإثم بسبب هذا القتل الذي سيرافق هذا الانفصال المبكر عن الطبيعة الخروج من رحم الأم. حينما يعقب هذا التحول حدوث الطوفان، بعد ادم ياتي نوح . وينتهي بحث جلجامس في رحلته لبلوغ الخلود الى انتصار الحية مجدداً، عليه بسرقتها عشبة الخلود، أثناء الغفو العظيم، وتسليمه بالأخير بأن ما يبحث عنه هو المستحيل، وان عليه ان يجد هذا الخلود في الأعمال الصالحة، أن احبوا زوجاتكم وضموهن الى صدوركم واعطفوا على الضعفاء والصغار ولتجدوا سعادتكم في راحة البال والاعتناء بحديقة البيت. وانه في هذا القدر المتواضع من الطموح لأنكم لن تصبحوا آلهة، تكمن سعادتكم. وهوما سيجد صدى متأخراً له في الفلسفة اليونانية من أن السعادة ألا تكونوا قد جئتم الى الحياة قط ولكن اذا حدث وجئتم فإن عليكم ان تسرعوا الخطى للعودة من حيث أتيتم. فالراحة هنا هي في مكوث الإنسان أطول وقت من العمر، في المكان الذي ولد فيه. لقد كانت أسطورة قتل الأم البابلية وتتويج الابن الإله مردوخ إلهاً إنما من قبيل الثورة الافتراضية الاولى إحلال الرغبات بديلاً عن الواقع، في محاولة الإنسان، الذكورة البشرية الخالصة في ميدان العلم، الطب التكنولوجيا، السيطرة على الطبيعة، او قهرها التفوق عليها، ونحن نعرف اليوم، انما كانت هذه المحاولة نوعاً من العبث، لأنه في الوقت الذي فكرنا فيه بهذا الخروج، الانفصال عن الطبيعة، عن الهواء النقي، والتراب، باستبدال العيش وسط الطبيعة بالغرف المغلقة، فقد وصلنا الى المرض، الحياة المرض.فقد كان المبنى العظيم الذي شيده مردوخ على جثة تعامة الأم تعبيراً عن تفوق بني الإنسان على الطبيعة الخروج من الكهف القديم. وربما لا زالت بقايا من أطلاله في نينوى في العراق. لم يكن سوى إيذان بالموت. تفشي نزعة التدمير الذاتي من دافع التعلق بالحياة، موت العقل الموضوعي الخالص الذي لم يكف عن المغامرة، انطلاقاً من الصناعة حتى الثورة الالكترونية، فهل نعرف الآن بعد أحدث دراسة، ان اربع ساعات امام الحاسوب يجب ان تجعل معظم الرجال يخشون ان يضربوا في مقتل، القضاء على الحيوانات المنوية. ويقول الجغرافيون في خلال هذا الشتاء الذي أودى بحياة 600 شخص في أوروبا ان ذلك انما عاقبة الاحتباس الحراري، شتاء اكثر برودة وصيف اكثر حرارة. إن رجلاً واحداً، فيلسوفاً ومفكراً ألمعياً عظيماً، نحتفل هذه السنة في شهر تموز القادم، بالمئوية الثالثة على ولادته هو جان جاك روسو الجميل الذي لم ينافسه في حياته شخص آخر تحت الضوء، هو الذي لاحظ مبكراً مع تحول الحداثة المدنية، في القرن الثامن عشر من ان الانسلاخ عن الطبيعة انما هو المرض، طاعون العصر وحيث كل جماع طاقة الإنسان، ومصادر شقائه ومرضه انما تستمد من علاقته بالطبيعة. روسو الذي أحرق كتبه في أواخر حياته تحت وطأة وحدته في المنفى، مفضلاً الاهتمام بالأعشاب. فهل أدرك روسو المسكين، الذي مجدت اسمه الثورة الفرنسية باعتباره ملهماً بأن العقد الحقيقي الذي يجب إبرامه، وقبل فوات الأوان، العقد مع أمنا، الأرض، الطبيعة، بعودة الابن الضال الى رحم هذه الأم والمصالحة معها، الاعتذار من تعامة، عن مغامرة العقل الأولى لإصلاح الاختلال في التوازن الذي أودى بفلاسفة القرن العشرين، الى نعي الحضارة في أقوى تجسيد لها أي الحضارة الغربية . "أريد أن أوجه نظري نحو الشرق لكي ما أرى الطريق التي سارت عليها الحضارة" قال فولتير. وأغلب الظن انه لم يقصد قصة الأسطورة البابلية، التي اكتشفها في القرن التاسع عشر عالم أثار ألماني، في مكتبة اشور. حين انبثقت عن هذه الحادثة المأساوية سيطرة العقل الذكوري الخالص الذي سوف ينتقده كانت وكارل ماركس على حد سواء. ويعزى إليه قصة فشلنا التي نواجهها اليوم. ولكن الذي يجد له تعبيراً ساخراً فيما يطلق عليه "صمت الرجال" الذي تعاني منه الزوجات او ما يمكن تسميته "خرس البيوت" تحت وطأة شعور الرجل بثقل القيادة. يحب الرجل ضعف المرأة، جسدها وقلبها، أنوثتها التي تعبر عن الضعف، ويضيق ذرعاً بعقلها، وتحب المرأة في الرجل قوة رجولته لكن ضعفه الحنيني الطفولي لئلا يغادر رحمها. هل تروي لنا الأسطورة إذن هذا الجانب المعتم والدفين في الصراع بين ما يطلبه الواحد من الآخر، الرجل والمرأة. وكان القتل بمثابة تمرد، ثورة مبكرة على سطوة الطبيعة الأم في صورة المرأة الأنثى، ورفض الرجال سطوة الإناث، نموذج المرأة المتسلطة "الأمازونية".لكن ليس شتاء مثل هذا الشتاء عجوزاً طاعناً في السن حاد القسمات ما يحيلنا يذكرنا أخيراً بفكرة الموت او المصير، شتاء كما الطوفان السومري القديم، يشعرنا بقرب النهاية، بنهاية العالم، كإيذان بعاقبة الخطيئة، شتاء يتكرر في الحياة مرتين، ولكن المرة الأولى على شكل فرح ومبهج في الطفولة، كألوان الطبيعة الزاهية، في انعكاسها لأول مرة، على عيوننا تحت شمس وردية مشرقة، في الصباح كما لو أنها تداعبنا، تكلمنا وفي المرة الثانية، على شكل تعامة وقد انبعثت من الموت لتذكرنا بقدرتها الفائقة على الانتقام. تعيش في هذه الأوقات المرة الثانية، من كان وحيداً، دونما قلب امرأة تحنو عليه، يختبئ في حضنها، ثم يذهب في خدر عميق، ليعود طفلاً من جديد، مغامرة الإنسان الأول في العودة الى العماء المطلق، الى رحم الأم، الأنثى الأم جنة عدن، الفردوس المفقود وحيث يقال ان جميع الرجال يظلون أطفالاً الى ان تموت أمهاتهم فيشيخون سريعاً. وفقط يعود الشيخ الى صباه حينما يعود الذكور الى أعشاشهم، الى المكان الذي جاؤوا منه اول مرة بالعودة الى أمنا الأرض. التوافق مع الأنثوية الذي هو الخلاص.