مثل طفل يعاني من مشكلة سمع وتركيز، فان انتباه الاسرة الدولية يتردد في الاسابيع الاخيرة بين مركزي اهتمام قطبيين في الشرق الاوسط: المذبحة التي يرتكبها نظام الاسد ضد معارضيه في سوريا والتوتر المتعاظم في الخليج الفارسي حول البرنامج النووي الايراني. وحول هذين القطبين سنبقى نراوح في الاشهر القريبة القادمة. في ظل صور الفظاعة من سوريا وفي ضوء سيناريوهات الرعب المستقبلية في ايران، يخيل ان القصص الاخيرة، مهما كانت مشوقة، تتقزم. فحمام الدماء في مباراة كرة القدم في مدينة بورسعيد المصرية نسي وكأنه لم يكن. الاعلان عن اقامة حكومة وحدة فلسطينية بصعوبة سجل نقطة على الرادار. وحتى حكومة نتنياهو فقد تفرغت للحظة فقط لتشجب خضوع السلطة لحماس، قبل أن تعود الى التهديد بخطوات عسكرية ضد ايران. رئيس شعبة الاستخبارات، اللواء آفي كوخافي، اجرى الاسبوع الماضي ظهورا عاما أول في خطاب له امام مؤتمر هرتسيليا. نحو نصف الاربعين دقيقة من محاضرته كرست لاستعراض الهزة في العالم العربي. باقي الخطاب ركز فيه كوخافي على دولتين اثنتين، ايران وسوريا. واعتذر بالنسبة للساحات الاخرى لانه لن يتمكن من التطرق لها لضيق الوقت. وكان الفلسطينيون مجرد ملاحظة هامشية. شيء كهذا ما كان يمكن له أن يحصل في العقد الماضي، عندما كانت اسرائيل تنزف تحت هجمة ارهاب الانتحاريين. في الساحتين الاساستين تواجه اسرائيل صيغا مختلفة من ذات المعضلة. في كلتيهما، اسرائيل والاسرة الدولية معنيتان بان تحققا، ظاهرا، ذات الشيء بالضبط: وقف النووي الايراني وسقوط النظام السوري. ولكن في كلتيهما تتعرض اسرائيل لما يمكن أن يتضح بانه خطر فوري. البرنامج الايراني قد ينضج قبل أن تؤثر العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي. وسائل قتال استراتيجية، وعلى رأسها مخزونات السلاح الكيماوي والصواريخ بعيدة المدى، كفيلة بان تتسرب من النظام السوري المتفكك الى منظمات الارهاب وعلى رأسها حزب الله. الضرورة الاسرائيلية (ويوجد من يقول الاغراء) للعمل على احباط سريع لهذه التهديدات تصطدم مع جدول الاعمال العالمي. هجوم جوي في ايران في ذروة العقوبات الاكثر حدة التي فرضت في أي وقت مضى، لن يحظى بشرعية دولية. قصف قوافل السلاح، على جانبي الحدود بين سوريا ولبنان، كفيل بان يستخدمه حكم الاسد كذريعة لازاحة النار نحو مواجهة مع اسرائيل في محاولة منه لتأخير سقوط النظام. بالمقابل، يحتمل ان يكون التجلد هو خطر يصعب على اسرائيل أن تأخذه على عاتقها، ولا سيما في حالة سوريا، التي قد تظهر بانها عاجلة جدا. قناتان يلوح شباط كشهر تأخير الرضى من ناحية وزير الدفاع ايهود باراك. فمبادرة ضمان مقعد له في قائمة الليكود في الكنيست القادمة مآلها الفشل. وسيتعين على باراك أن يأمل بان ينجح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بان يضمن مكانه كتعيين مهني كوزير للدفاع في الحكومة القادمة، دون أن ينتخب في الكنيست. كما أن مسودة المراقب في قضية هيرباز ستتأخر عدة أسابيع اخرى. في الموضوع الايراني، على الاقل، يبدو باراك في غاية الحزم. غير مرة سُخر من نتنياهو على النبرة التشرتشلية في خطاباته في المسألة الايرانية، ولكن باراك بالذات، الذي درج على أن يقول في الماضي بان طهران لا تشكل تهديدا وجوديا لاسرائيل، يتحدث الان بتعابير تاريخية محملة بالمصائر. ففي هرتسيليا شبه الفترة الحالية بثلاث فترات حاسمة في تاريخ اسرائيل – حرب الاستقلال، حرب الايام الستة وحرب يوم الغفران. هذا زمن الاختبار للزعامة، قال باراك. "مطلوب فيه فهم عميق للصورة التاريخية والاستراتيجية الى جانب التحكم الكامل بالتفاصيل، الوعي، واحيانا الوحشي، برودة الاعصاب، التفكر، الشجاعة لاتخاذ القرارات والقوة لتنفيذها". فهل الوعي الوحشي يعبر عن حسم اسرائيلي، اتخذ عمليا منذ الان، بالهجوم، ام ربما يعكس فقط الرغبة في وضع كل حجارة الدومينو في صف واحد – بمعنى، مواصلة التلويح بالتهديد بالقصف امام ناظر الاسرة الدولية لضمان ان تشتد العقوبات على ايران أكثر فأكثر؟ الرئيس الامريكي براك اوباما، أجاب هذا الاسبوع ببساطة، في مقابلة تلفزيونية عشية السوبربول – لعبة بطولة الفوتبول في الولايات المتحدة – بان اسرائيل لا تزال لم تقرر اذا كانت ستهاجم. يخيل ان هذا هو التفسير الصحيح: القيادة الاسرائيلية تركز على القناتين جنبا الى جنب ولاحقا في هذه السنة سيتخذ القرار. اقوال اوباما جاءت لتشوش بعض الانطباع الذي خلفه وزير دفاعه، ليئون بانيتا، الذي نقل عنه قبل بضعة ايام من ذلك في "واشنطن بوست" كمن قدر بان اسرائيل حسمت منذ الان أمرها في صالح الهجوم. نتنياهو هو الاخر، من جانبه بذل هذا الاسبوع جهدا لتخفيض مستوى النار ووجه وزراءه وكبار رجالات الجيش الاسرائيلي لكبح جماح الثرثرة عن ايران. واستنادا الى تجربة الماضي، يمكن التقدير بان الامر الجديد سيصمد اسبوعين في اقصى الاحوال – وأول من سيخرقه سيكون نتنياهو وباراك نفسيهما. الهستيريا في الموضوع الايراني تترافق وتقارير صحفية من على جانبي المعمورة. كل تصريح اسرائيلي يعطي صداه في الولايات المتحدة وكل بث امريكي لتخمين بالهجوم يستقبل هنا ككلمة الرب. المثال البارز على ذلك منذ بداية الشهر كان، الى جانب الاحساس الداخلي لدى بانيتا، في التغطية المضخمة لتعيين قائد سلاح الجو. لا بد أن هناك دول متنورة اخرى تتناول فيها الصحافة تعيين جنرالات بهالة مقدسة كهذه. ايران وكوريا الشمالية على وجه الافتراض. نهج مشابه ميز أيضا الاقتباسات الانفعالية عن "خطة الهجوم الاسرائيلية" كما عرضت في شبكة "ان.بي.سي". فقد أوضح التقرير بان الهجوم سيتم من خلال دمج طائرات قتالية، قوات كوماندو وصواريخ أرض – أرض، وهذه معلومات شديدة القيمة لمن اعتقد حتى الان بانه سيستند أساسا الى شرطة بيتح تكفا. التوتر الاعلامي لا بد سيتصاعد في الشهر القادم. في غضون ثلاثة ايام في بداية اذار يتوقع التطورات التالية: انتخابات للبرلمان الايراني، مؤتمر في فيينا لمجلس امناء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث سيطرح على النقاش تقرير متابعة لتقدم البرنامج النووي، وخطاب نتنياهو في مؤتمر ايباك في واشنطن. الانتخابات في ايران ستكون اختبار قوة شديد المعنى بالنسبة للنظام الذي يلوب تحت عبء العقوبات ولا يزال يدفع ثمن تزوير النتائج وقمع الاحتجاج في الانتخابات الرئاسية في حزيران 2009. تقرير وكالة الطاقة الذرية سيقدم تفاصيل جديدة، اخطر من السابق حول تقدم "قناة السلاح" – مساعي ايران لانتاج رؤوس متفجرة نووية للصواريخ. اما نتنياهو فيستعد على ما يبدو، الى جانب تصفيق 11 الف نشيط يهودي متحمس، الى لقاء ثنائي آخر مع اوباما. اذا ترافق اللقاء بظهور مشترك علني، فستختفي عنه مؤشرات التوتر الصرفة التي بدت في ظهورهما السابق في ايار من العام الماضي. اوباما، في ذروة سنة الانتخابات، سيعانق نتنياهو. في مقابلة تلفزيونية هذا الاسبوع شدد الرئيس على أن العلاقات العسكرية والاستخبارية بين الدولتين "لم يسبق أن كانت افضل" ووصف الحرص على أمن اسرائيل كأولوية عالية على نحو خاص لدى الادارة. ويصف الطرفان اجماعا واسعا بينهما في موضوع تقدم النووي الايراني، الى جانب خلاف على طبيعة العلاج المرغوب فيه وعلى مدى الالحاح في الجدول الزمني. ولكن في اسرائيل ايضا يعترفون الان، بنصف فم، بتأثير العقوبات. فقد قال كوخافي في هرتسيليا انها ألحقت منذ الان ضررا بالاقتصاد الايراني، وانه "كلما اشتدت، فثمة احتمال كامن بان تدفع النظام، الذي يخشى على بقائه، الى اعادة النظر في مواقفه". رجل استخبارات قديم، يتابع منذ سنين النووي الايراني، بدا هذا الاسبوع اكثر تفاؤلا. "رأينا هذا يحصل في 2003، تحت تهديد الهجوم الامريكي في العراق. بعد تمثيل "الضربة والرعب" في بغداد، تراجعت القيادة في طهران وأوقفت التقدم في القناة العسكرية. آيات الله اكثر برغماتية وذكاءا مما يخيل لنا. اذا ما شعروا بخطر حقيقي، فسيتوقفون لزمن محدود". هذه، إذن، هي الصورة في الخطوط العامة: اسرائيل مرة اخرى تشدد نبرة التصريحات، لاستئناف الضغط قبيل الانعقاد في فيينا على امل تحفيز فرض عقوبات اخرى. حظر النفط الذي أعلنت عنه اوروبا سيدخل حيز التنفيذ في تموز واوباما وقع هذا الاسبوع على مرسوم رئاسي يشدد العقوبات على التبادل مع البنك المركزي الايراني. روسيا والصين تواصلان وضع العراقيل في وجه الولايات المتحدة، التي تسعى الى بلورة اجماع عالمي أوسع حول العقوبات. والسعودية تعد بمنع غلاء اسعار النفط الى ما فوق 100 دولار للبرميل (السعر الحالي – نحو 97 دولار للبرميل)، اذا ما تضرر التصدير الايراني. ايران لا تزال تبقي لنفسها الخيار الخطير في اغلاق مضائق هرمز وتشويش توريد النفط من امارات الخليج اذا ما اشتد الضغط الدولي. التوتر المتصاعد هو مجال واسع للاخطاء وسوء الفهم المتبادل، فما بالك وأنه تحتشد في منطقة الخليج قوة بحرية هامة، تتضمن حاملات طائرات امريكية الى جانب سفن بريطانية وفرنسية. حرارة روسية من الصعب تحديد أي صورة من سوريا اثارت هذا الاسبوع مفاجأة أكبر في الرأي العام الدولي: مشهد جثث المواطنين التي تجمعت في ساحة واحدة في مدرسة في حي بابا عمرو في حمص أم قافلة سرجيه لافروف، وزير الخارجية الروسي الذي استقبل في دمشق بعشرات الاف السوريين المتحمسين الذين خرجوا الى الشوارع بأمر من النظام. يبدو أن التناقض بين أجواء الاعمال كالمعتاد والتي يحاول الرئيس بشار الاسد بثها من دمشق، للمساعدة السخية من موسكو، وبين الواقع المخيف في باقي أرجاء الدولة، لم يكن أكثر فظاظة. فبينما استقبل مؤيدو الاسد لافروف بالاناشيد، بالاعلام وبالتحيات، في حمص واصل الجيش السوري مساعيه لشطب احياء كاملة دون أن يتدخل العالم في ما يجري. موسكو، مثل طهران وحزب الله، تراهن على بشار. فروسيا توفر المظلة الدولية الرسمية لايران وسوريا، ولكن العالم العربي غاضب منها. دعاة سُنة يصدرون فتاوى تحظر التجارة مع موسكو، واعلام روسيا تحرق في شوارع قطر والقاهرة، وهذه بادرة محفوظة حتى اليوم لاعلام اسرائيل والولايات المتحدة. اختيار الاسد سيكلف روسيا العداء الشديد من جانب الدول السنية في السنوات القريبة القادمة. ما يجري في حمص هو مذبحة بكل معنى الكلمة. الجيش السوري لم يكتفِ هذا الاسبوع بقصف حي بابا عمرو، وكذا أحياء الخالدية، البياضة والانشاءات تلقت الضربات هي الاخرى. في القنوات التلفزيونية العربية ظهرت منازل مهدمة، أزقة مشتعلة وعشرات المصابين الذين لا يتلقون أي علاج طبي. السكان الذين لا يزالون يقفون على أرجلهم يستجدون المساعدة من الخارج. عدد القتلى في المدينة في الاسبوع الماضي قدر بمئات عديدة. وافادت شبكة "العربية" أول أمس بمصاعب في دفن الموتى تحت القصف المتواصل. ودخلت دبابات الجيش السوري في ذات اليوم الى نطاق المستشفى في حي الانشاءات واطلقت القذائف في كل صوب. وبدا الثوار كعصبة غير منظمة، تجد صعوبة في التصدي لقوة الجيش وتعتمد اساسا على رحمة الله. يبدو أن في هذه المرحلة الاعتماد الحصري على رحمة السماء لن ينقذ معارضي بشار. ويذكر وضعهم بوضع منظمات المعارضة في ليبيا في منتصف السنة الماضية، حين بدا بان قوات القذافي توشك على الحاق الهزيمة بهم. في هذه اللحظة، على المستوى العسكري، تبدو المعركة غير متوازنة. فرغم الفرار والمعنويات المتدنية، فان الجيش السوري منظم ومسلح بلا قياس أكثر من الثوار. يخيل أنه بدون مساعدة عسكرية من الخارج لمعارضي النظام، في صيغة تجند الناتو والدول الغربية في ليبيا، فان الاسد سيواصل ذبح ابناء شعبه بهدوء لزمن طويل آخر. الدعوة التي وجهها هذا الاسبوع السناتور الجمهوري جون مكين الى الادارة للتفكير بنقل معدات عسكرية الى المعارضة السورية، استجيبت برد فعل سلبي من جانب الناطق بلسان البيت الابيض، جي كرني، الذي اكتفى ببيان بان الولايات المتحدة ستفكر بارسال معونات انسانية. ومع أنهم في اسرائيل يواصلون التقدير بان النظام في دمشق يعيش خطرا فوريا، وانه في غضون اشهر كفيل بان ينهار، الا ان حمص ايضا – رغم الصدمة الحقيقية التي تثيرها المشاهد في شوارعها في العالم العربي – لم تسقط بشار بعد. بالمقابل، يبدو أن الاسد سار بعيدا جدا من أن يتمكن من البقاء في الحكم الى الابد. الحرب الاهلية قد تعربد في سوريا لزمن طويل آخر، قبل ان تؤدي الى رحيل الرئيس. ازمة داخلية الامين العام لحزب الله حسن نصرالله تطرق هذا الاسبوع الى الوضع في سوريا. في خطاب آخر من مخبئه ادعى نصرالله بحزم بان فحصا معمقا أجرته منظمته أظهر بان "لا شيء يحصل في حمص". ولا يزال، واضح ان نصرالله يتصبب عرقا في ضوء أزمة الاسد. الدليل على ذلك هو بالذات رد الفعل الاستثنائي على ما يجري في الخليج الفارسي. في خطاب القاه بمناسبة ذكرى مولد النبي محمد، يوم الاحد، قال نصرالله ان منظمته ليست دمية لطهران وانه اذا هاجمت اسرائيل مواقع النووي، فان حزب الله وحده سيقرر اذا كان سيتدخل في المعركة. هذه حجة غير مقنعة. فالايرانيون لم يستثمروا ملايين الدولارات في تزويد عشرات الاف الصواريخ لحزب الله كي يتركوا مثل هذا الحسم لتفكير المنظمة اللبنانية. ولكن مجرد الاعلان يعكس الشرك الذي يوجد فيه حزب الله. عندما تكون ايران محاصرة وسوريا تغرق في حرب أهلية، فان نصرالله يضطر مرة اخرى الى التشديد على الهوية اللبنانية لمنظمته كي لا يثير عليه باقي الطوائف في الدولة. كما ان التطورات في القناة الفلسطينية ايضا ترتبط باحداث دمشق والخليج. فقد شهدت حماس هزة شديدة، حيث تحدت قيادة المنظمة في القطاع، علنا، قرار رئيس قيادة الخارج، خالد مشعل، للتوقيع على اتفاق الدوحة الذي غايته اقامة حكومة وحدة مؤقتة مع السلطة. لاول مرة تعرض أزمة داخلية في المنظمة على الخارج بهذا الشكل العلني. مشعل، الذي سبق أن غادر دمشق، يسعى الى المصالحة مع السلطة كي يمنع ثورة شعبية ضد حماس في غزة وينضم الى المحور المعتدل الذي تقوده السعودية، قطر ومصر. أما اسماعيل هنية بالمقابل، فيلتف عليه من اليمين ويغير الخط البرغماتي الذي تميز به في الماضي بالتقرب الى الايرانيين. هنية، رئيس وزراء حماس في غزة قام بزيارة الى طهران.