نبدأ بالمؤامرات: التصعيد المتجدد في الجنوب لم يأت للتشويش على عودة الاحتجاج الاجتماعي. مشكوك جدا ان يكون نشطاء الجهاد الاسلامي، الذي أطلقوا ليلة الاربعاء صاروخ غراد على منطقة اسدود، قد شملوا في اعتباراتهم المظاهرة في ميدان رابين في منتهى السبت. كما ان رجال المخابرات، الذين أوصوا بضرب خلية الجهاد عصر أمس، لم يهتموا على ما يبدو بمخططات دفني ليف. فقد شخصت المخابرات استعدادات لاطلاق اضافي للكاتيوشا في معسكر تدريب على حطام مستوطنة عتسمونا؛ فدُفع بسلاح الجو. نتائج الهجوم – خمسة قتلى من رجال الجهاد، بينهم نشيط اقليمي كبير نسبيا، هو الذي يملي شدة التصعيد الحالي. في هجمات اضافية لسلاح الجو قتل خمسة آخرون من نشطاء الجهاد. جولة الاضطرابات التي بدأت أمس تُذكر حاليا بالجولة السابقة، التي استغرقت بضعة ايام في أعقاب العملية قرب ايلات في 18 آب. هذه المرة، ليس للاعبين الأساسيين، اسرائيل وحماس، مصلحة حقيقية في اشتباك طويل. حماس لم تستنفد بعد استعراض القوة بعد صفقة شليط، التي يتحرر فيها أكثر من ألف سجين فلسطيني. السياسة التي تُملى على الجيش الاسرائيلي في القطاع، منذ بضعة اشهر، تتمسك بالاحتواء وبضبط النفس. القيادة السياسية، حتى لو كانت تتسلى بأفكار اعادة الردع تجاه غزة، لا تبدو متحمسة في هذه المرحلة للدخول في مغامرة عسكرية في القطاع، ليست أهدافها واضحة وانهاؤها محوط بالغموض. الجهاد ردت على قتل رجالها بنار كثيفة: نحو 30 كاتيوشا وقذيفة هاون، قتل بها اسرائيلي واحد وأصيب اربعة. صور نشرتها الجهاد أمس توثق اطلاق خمسة صواريخ في وقت واحد. أما سلاح الجو فركز على ضرب خلايا اطلاق النار، ولكن يمكن الافتراض بأن قريبا ستكون هناك هجمات مبادر اليها ضد قيادات واستحكامات لحماس والجهاد. في الماضي، انطفأت مثل هذه الجولات في غضون أقل من اسبوع. أما استمرارها فمنوط أساسا بحجم الخسائر. اذا كان قتلى اسرائيليون في القصف، فسيشتد الرد العسكري. كما ان موقف حماس مهم. في الجولة الاخيرة، في آب، انضمت حماس في مرحلة لاحقة الى النار لأن المنظمة شعرت بأنها تفقد النقاط في الرأي العام الغزي في صالح الفصائل الأصغر والأكثر تطرفا. ولكن في كل مرة شعرت فيها قيادة المنظمة بأن الامور تخرج من السيطرة واسرائيل من شأنها أن تعرض مستقبل مشروع حماس الكبير للخطر – الحكم الاسلامي في غزة – اختارت الضغط على الكوابح. هذه المرة، ستكون لديها حوافز اخرى لذلك: العلاقة المتوثقة مع الحكم المؤقت في مصر والتخوف من أن يؤخر القتال طويل الأمد استكمال المرحلة الثانية من صفقة شليط، والتي يفترض ان يتحرر فيها 550 سجينا أمنيا آخر. في حماس لم يفاجأوا من قرار الجهاد اطلاق صاروخ غراد على اسرائيل بعد اسابيع طويلة من الهدوء النسبي. فلو طالت المهلة في القتال لكانت الجهاد غرقت، بعيدا عن انتباه الجمهور الفلسطيني. هذه ليست نيتها، وبالتأكيد ليست أجندة مسؤوليها الايرانيين، الذين يسرهم كل اشتعال متجدد. الآن، تقف منظمة الجهاد مرة اخرى في جبهة "المقاومة"، الفكرة التي تلتزم بها حماس علنا ولكن مرة اخرى لا تطبقها بذات التواتر مثلما في الماضي. وكي لا تعتبر منظمة تنازلت عن ايديولوجيتها في صالح الراحة، فان حماس ملزمة بأن تسمح للجهاد بأن ترد بالصواريخ على قتل رجالها، ولكن هذا صحيح كما أسلفنا لزمن محدود فقط. وزير الخارجية، افيغدور ليبرمان، الذي ادعى الاسبوع الماضي بأن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) هو العائق المركزي للسلام، قال أمس في زيارة له الى البوسنة انه يأمل في ان تساعد السلطة (الى جانب الأسرة الدولية) على وقف النار. لعله يمكن اطلاع ليبرمان بأن ليس للسلطة أي تأثير على غزة، وفي هذه اللحظة، في ضوء تصريحات وزير الخارجية، ليس لها ايضا مصلحة في عمل ذلك. قبة حديدية لم تُفعّل مسألة اخرى طُرحت أمس تتعلق بأداء بطاريات قبة حديدية. في الجولات السابقة، في نيسان وفي آب، حققت القبة نجاحات مثيرة للانطباع. أما أمس فسجل اعتراض ناجح واحد، فوق بئر السبع، ولكن الكاتيوشا التي أطلقت على اسدود وعسقلان لم يتم اعتراضها. ويُبقي الفلسطينيون حاليا "سلاح يوم الدين" لديهم في المخازن. الكاتيوشا تُطلق الى مدى نحو 40 كم، حتى بئر السبع في الشرق والغديرة في الشمال، ولكن في حوزة الفصائل ايضا صواريخ قادرة على ضرب تل ابيب وهرتسليا. هكذا ايضا، وجد أنفسهم أمس نحو مليون اسرائيلي رهائن قرارات يتخذها قادة الأذرع العسكرية للمنظمات في القطاع. معاريف – من اللواء (احتياط) اسرائيل زيف: قريبا الحسم في التصعيد الحالي في الجنوب والذي يبدو وكأنه واحدا من تصعيدات كثيرة، يجلب معه مع ذلك بعض التغييرات الجوهرية التي ينبغي لدولة اسرائيل ان تفحصها عميقا عندما تأتي لتقرر كيف تعمل. ما الذي يختلف عنه اطلاق النار من القطاع هذه المرة؟ أولا، مدى النار وحجمها يشكلان قضما ذا مغزى في "قوانين اللعب" ويؤديان الى تخفيض زاحف للردع الاسرائيلي. تشويش انظمة الحياة في وسط دولة اسرائيل، في موعد قريب من صفقة أعادت جلعاد شليط، يدل على مستوى من الثقة بالنفس متصاعدة في القطاع وجاهزية لشد الحدود الى اماكن جديدة. اضافة الى ذلك، هناك المعرفة بأن لدى حماس لا تزال توجد موجة اخرى من الصواريخ التي يمكنها ان تؤثر على غوش دان، وأخيرا، الامر الاخير الهام الذي تغير هو بوليصة تأمين "شليط" والتي كانت لدى حماس ولم تعد في يدها اليوم. هذه المعرفة حرجة، وذلك لأن اسرائيل يمكنها ان تقرر العودة الى "صيد الرؤوس" دون الخوف على حياة جندي يوجد في يد المنظمة، وهي امكانية لم تكن في يدها في السنوات الخمس والنصف الاخيرة. ما الذي لم يتغير في التصعيد الحالي؟ الاستراتيجية الأساس لحماس والمنظمات في القطاع لمواصلة "طريقة السلامي" لدحر الحدود وادراج مزيد من السكان تحت تهديد الصواريخ. لعبة فرض المسؤولية عن النار على منظمات ثانوية في القطاع هي تكتيك ياسر عرفات المعروف، والذي هدفه مناوشة اسرائيل دون انقطاع في ظل إزالة المسؤولية عنه. الاستراتيجية مسنودة بقراءة لخريطة نقاط الضعف السياسية للقيادة الاسرائيلية، في ضوء رغبتها في اطفاء الحرائق وعدم حلها. يُخيل ان التصعيد الحالي سيجعل من الصعب على أصحاب القرار مواصلة التصرف بطريقة رد الفعل المحدود – الامتصاص – وكسب الوقت حتى الجولة التالية. البركان المتطور في القطاع يقوم على أساس ترسانة سلاح هائلة في حجومها، في ضوء الوضع الاقليمي غير المستقر يمنح حماس قوة استراتيجية أكبر، ولا سيما لأنه في نظرها اسرائيل لن تأخذ في هذا الوقت المخاطرة بتنفيذ حملة واسعة النطاق في القطاع. العزلة السياسية المتصاعدة لاسرائيل تشكل هي ايضا حافزا ذا مغزى في جسارة حماس، وصفقة شليط تترجَم، على حد فهمها، كاستسلام اسرائيلي ومنح شرعية غير مسبوقة لحكومتها. لم يعد لحكومة نتنياهو والجيش الاسرائيلي مجال مناورة واسع آخر في الميل للامتناع عن عملية هجومية عميقة في القطاع و"التعاون" الاسرائيلي مع قواعد اللعب التي تمليها المنظمات في القطاع – تحميل المسؤولية على المنظمات الثانوية – ليس سوى نوع من الشرعية لمجال المناورة الذي تقوده حماس. السؤال هو اذا كنا نقف أمام جولة اخرى أو انعطافة تستوجب معالجة جذرية. حتى لو لم يُحسم الآن، فسيكون مطلوبا الحسم قريبا، ويفضل موعد أقرب قدر الامكان.