’ للأسف الشديد، هناك من يستخفّ بالتركيز على الأسس والثوابت والأصول التاريخية، بل يشجب مثل هذا التركيز ويستنكره، ويصنّفه لغة خشبيّة ميتة، هي من مخلّفات القرن الماضي وما قبله، ومن مخلّفات فترة ما يسمّى بالحرب الباردة.. الخ، ويدعونا إلى الانهماك فقط في تتبّع الوقائع اليومية الرهيبة التي تعصف بالبلاد العربية، والى المساهمة حصراً في تحقيق الخلاص الديمقراطي، ومن ثمّ تحقيق استقرار كلّ دويلة في الوضع التي هي عليه آمنة مطمئنة بعد القضاء على المستبدّين الظالمين، بينما المؤكّد أنّ الخلاص الديمقراطي سوف يتمخّض عن مجرّد وهم من الأوهام إذا لم يرتكز إلى الحرية، أي إلى إعادة الاعتبار للأسس والثوابت والأصول التاريخية كشرط لا حرّية ولا استقلال ولا ديمقراطية من دونه.’ ’ في متابعتنا لما ينشر في الصحف نلاحظ أنّ عدداً كبيراً جدّاً من القرّاء ينشدّ مستثاراً إلى ما يكتب عن الوقائع العربية اليومية الفظيعة، بينما عدد قليل جدّاً يهتمّ بما يكتب عن الأسس والثوابت والأصول التاريخية. وبالطبع، ليس من الجائز أبداً إغفال الوقائع اليومية الفظيعة التي يكتوي بنيرانها عشرات الملايين في هذا البلد العربي أو ذاك. ولكن، إذا كانت أجهزة الإعلام تتولّى نشر هذه الوقائع حال حدوثها، وإذا كان من الضروري شرح وفضح خفاياها والتعليق عليها، وهذا ما يفعله الكثيرون على مدار الساعة، وما نتابعه على الدوام بعيون كثيراً ما تنهمر دموعها، فإنّ القضية تبقى أخطر بما لا يقاس من مجرّد جرائم الإرهاب والقتل الفظيعة التي يرتكبها المستبدّون، ويبقى من الضروري أن ينصرف آخرون بجهدهم الأكبر إلى التركيز على الأسس والثوابت والأصول التاريخية، التي لا خلاص حقيقي لأيّ شعب لا يتشبّث بها. ’ ’ ’ هناك كثيرون ما زالوا لا يرون مأساة أمتهم على حقيقتها، بحجمها الطبيعي وأبعادها الكاملة. فهم إمّا يجهلون معظمها، أو أنّهم يعرفون ويخشون مواجهتها. أي أنّهم يهربون من مواجهة العدو بحجمه الحقيقي، ويتوجهون إلى أصدقائه ووكلائه المحلّيين ساعين إلى تغييرهم، بموافقة العدو وبمساعدته. وهم عندما ينجحون في إسقاط الحكومة/الأداة، التي اختصروا العدو فيها، يتعامون أيضاً عن رؤيته وقد وافق وساعد على استبدالها بأخرى مختلفة تبدو من حيث الشكل فقط كأنّما هي تلبّي مطالبهم. ’ ’ إنّ تحالف النظام الاحتكاري الدولي والنظام العربي الرسمي ضدّ الأمة العربية (الممزّقة والمغتصبة والمغيّبة جملة وأطرافاً) هو الحقيقة الأولى التي لا يجوز أن تغيب عن الأذهان ولو للحظة. وإذا كان من المستحيل مواجهة هذا التحالف في جولة ميدانية واحدة فاصلة، وهو أمر مستحيل حقاً، فإنّ ذلك لا يبرّر تجاهل الأسس والثوابت والأصول التاريخية، واستئصالها من نسيج الوعي الشعبي العام، والانصراف كلّياً إلى التفاصيل اليومية الآنيّة على فظاعتها، بحيث تقتصر المأساة على أسلوب تعامل الحكومات/الأدوات مع شعوبها، فتغيب الأسس والثوابت والأصول، ويصبح سقف المطالب الشعبية مقتصراً على وقف عمليات جلدها وإذلالها وقتلها.’ ’ والآن، نريد أن نركّز هنا على أسلوب من أساليب المركزية الأوروبية/الأمريكية في إدارة هذا العالم الذي تعتبره ملكاً لها، وهو الأسلوب الذي اعتمدوه منذ حوالي قرنين، ولم يتخلّوا عنه حتى اليوم على الرغم من صعود مجموعة الدول العشرين وعلى الرغم من تفاقم أزمة النظام الرأسمالي العالمي في مراكزه التاريخية الرئيسية. ويتلخّص ذلك في أنّ المركزية إيّاها لا تكتفي باختيار وتعيين أصدقائها وحلفائها وعملائها من إدارات الدول الأخرى، بل تختار وتدعم (وتعيّن أحياناً!) خصومها أيضاً.’ ’ ’إنّ في العالم خصوماً للإمبريالية يخدمونها تلقائياً (بحكم تكوينهم الشاذ) أكثر من أصدقائها. وهذه الحقيقة تصبح مفهومة عندما نتذكّر أنّ الركن الثابت من أركان الإستراتيجية الإمبريالية هو استعباد الأمم والتعامل معها كقطعان، فكيف لا يحظى بالدعم (بطريقة أو بأخرى) خصماً مستبدّاً حوّل شعبه إلى ما يشبه القطيع؟ وكيف لا يتحمّلون إزعاجاته وفظاظته مقابل قيامه بهذه المهمّة الرهيبة، العظيمة التكلفة مالاً ورجالاً، والتي قد يعجزون هم عن القيام بمثلها بالنجاح نفسه؟ وكيف لا يوهمونه أنه خصم حرّ مستقلّ، وهو يعقد معهم الصفقات على حساب شعبه المغيّب، معتقداً أنّه يفعل الصواب، من موقع الخصم الحرّ المستقلّ تماماً، بينما هو ليس كذلك على الإطلاق، حيث لا حرّية لحاكم يستعبد شعبه؟’ ’ لقد دفع المستبدّون العرب شعوبهم إلى حافة الكفر بالوحدة العربية، مثلاً، بتبنّيهم غير العقلاني لقضية الوحدة، وتشويهها بطرق لا يستطيعها أعداء الأمة الأجانب. وهم دفعوا أيضاً وأيضاً شعوبهم إلى حافة التخلّي عن قضية فلسطين، بتحويلها إلى ذريعة للاستبداد وغطاء للفساد والإفساد. وهكذا حظي مثل هؤلاء الخصوم للإمبريالية بدعمها غير المباشر لعقود طويلة، حتى انتهاء صلاحيتهم. وهاهم الأطلسيون يطيلون في عمر المستبدّ الليبي (وهم القادرون الآن على استئصاله فوراً) كي يساعدهم وجوده في إنهاك الشعب الليبي وتطويعه لصالحهم تماماً، وربّما ساعدهم على تقسيم ليبيا إذا كان مثل هذا التقسيم ضرورياً.’ ’ في أواسط القرن التاسع عشر نجح لويس نابليون في الاستيلاء على السلطة في باريس، وسرعان ما أعلن نفسه إمبراطوراًً، واندفع بلهفة ساعياً إلى تكرار سياسات وحروب وأمجاد نابليون بونابرت، غير آبه لتغيّر الزمان ولتبدّل أوضاع أوروبا بصورة لا تسمح أبداً بالتكرار. وهكذا أعلن الحرب ضدّ جيرانه بلا مبرّر، واندفع يحتلّ بلدانهم في محاولة لتوحيد أوروبــــا تحت قيادته، كما حاول سلفه، لكنّه انهزم أمام ألمانــــيا التي كان يحكمها بسمارك، ووقع أسيراً، وعن ذلك يتحدّث كارل ماركس (آخذاً بالاعتبار العداء التقليدي التاريخي بين فرنسا وألمانيا بسبب تضارب مصالحهما) فيقول ما خلاصته أنّ أوروبا كانت تنتظر محاكمة المجرم الأسير لويس نابليون، الذي أغرقها في الدماء بلا مبرّر، بينما كان خصمه الألماني بسمارك يفكّر بالطريقة التي يعيده بها إلى سدّة الحكم في باريس! لماذا؟ لأنّه أفضل من يقود فرنسا إلى الهلاك.’ كاتب سوري