منذ البداية، لم تخف إيران دعمها للنظام في سورية وتبني روايته للأحداث التي تجتاح البلاد طوال الأشهر الخمسة الماضية. السيد خامنئي، القائد الأعلى ومرشد الجمهورية الإسلامية، أصدر تعليماته لأركان الدولة بتقديم كل جهد ممكن للحفاظ على النظام السوري، وتأجيل كل نصائح الإصلاح إلى ما بعد التأكد من تأمين وضع النظام ونجاحه في مواجهة ’المؤامرات التي تحاك ضده.’ وقد أصبحت هذه التعليمات/ الفتوى الإطار المرجعي للمقاربة الإيرانية لسورية، التي يعتقد أنها شملت تقديم الخبرات التكتيكية والفنية، وربما العون التسليحي والمالي والاقتصادي أيضاً. وسرعان ما انعكس الموقف الإيراني على، أو واكب، مواقف حلفاء إيران في الجوار السوري. لم يخف حزب الله، على لسان كبار قادته، تأييده للنظام السوري ودعوته السوريين للحفاظ عليه؛ كما تبنت وسائل الإعلام التابعة للحزب موقف النظام والدعاية له. ثمة تقارير سورية وأممية تفيد بأن عناصر من حزب الله تقدم عوناً مادياً للأجهزة الأمنية السورية، بدون أن تتوفر أدلة بعد لتوكيد مثل هذه التقارير. ولكن تشكيل حكومة ميقاتي ـ حزب الله ـ عون في لبنان، التي كسرت تقاليد حكومات الوحدة الوطنية اللبنانية منذ نهاية الحرب الأهلية، تشير بوضوح إلى حجم تحالف الحزب مع النظام السوري. وكذلك سلكت حكومة المالكي في العراق، حليف إيران الآخر في الجوار، الذي استقبل وزير الخارجية السوري، وأكد لمجموعة من رجال الأعمال السوريين المرتبطين بالنظام أن سورية ستحل محل تركيا في عدد من عقود العمل والبناء الكبرى التي يحتاجها العراق. ثمة تخطيط لربط إيران والعراق وسورية بشبكة أنابيب نفط وغاز؛ وقد أكد وليد المعلم في لقائه مع المالكي أن دمشق قد أدارت ظهرها للعلاقات الاستراتيجية مع تركيا وأن تصورها للمستقبل يقوم على بناء محور سياسي استراتيجي يصل طهران ببغداد بدمشق وبيروت. أما التقارير الغربية التي أفادت بأن العراق سيقدم ستة مليارات دولار من القروض والضمانات لسورية، فليس ثمة ما يؤكدها هي الأخرى.المؤكد أن اصطفاف حكومة المالكي إلى جانب نظام الأسد يشمل الآن حتى التنكر للجانب الإنساني البحت، بعد أن بدأت بغداد إجراءات قاسية لإغلاق كل المنافذ الحدودية غير الرسمية أمام اللاجئين السوريين المحتملين من مدن الشرق السوري التي تتعرض لهجمات من قوات الأمن والجيش الموالية للنظام.في المقابل، وبعد تردد في الحالة التركية، وصمت في الحالة العربية، ثمة تصاعد في المواقف من النظام السوري خلال هذا الأسبوع. كانت تركيا منذ اندلاع الحركة الشعبية السورية قد بادرت إلى إجراء عدد من الاتصالات مع الحليف السوري، ومحاولة الضغط على الرئيس بشار الأسد للمبادرة بإصلاحات جادة تستجيب للمطالب الشعبية. ولكن القادة الأتراك سرعان ما أدركوا أن النظام في دمشق يستخدم زيارات المسؤولين الأتراك لتعزيز شرعيته وكسب الوقت، وأن السياسة الوحيدة التي يتبناها النظام هي سياسة القمع الدموي والمغالبة مع الشعب. ولأكثر من شهر، انسحبت أنقرة كلية من الشأن السوري، بدون أن تتجاهله، إلى أن بدأت وتيرة القمع في التصاعد مع بداية هذا الشهر، وبدا واضحاً أن لا الرأي العام التركي والعربي، ولا الرأي العام العالمي يمكنه الصمت أمام ما تشهده المدن السورية من مجازر. كان نائب رئيس الوزراء التركي، بولنت أرينتش، ضمير حزب العدالة والتنمية، أول من أعرب عن الغضب إزاء آلة القتل التي نشرها النظام السوري في أنحاء البلاد؛ ليتلوه تصريح رئيس الحكومة التركية، الذي أكد على أن علاقات التاريخ والقرابة ومئات الأميال من الحدود المشتركة تجعل من سورية مسألة تركية داخلية. وقد أشار أردوغان إلى أن وزير خارجيته، أحمد داوود أوغلو، سيزور دمشق يوم الثلاثاء، 9 آب/أغسطس، لنقل رسالة حازمة للقيادة السورية؛ الأمر الذي ولد رد فعل سوري مباشر خلال ساعات. وكما رئيس الحكومة التركي، أصدر الملك السعودي بياناً لا يقل انفعالاً تجاه سورية، معلناً عن سحب السفير السعودي بدمشق للتشاور، لتتلوه خطوات شبيهة من حكومات الكويت والبحرين؛ وتصريح أكثر دبلوماسية، وإن لم يخل من الدلالة، من الأمين العام للجامعة العربية، أعرب عن قلق الجامعة تجاه العنف المتزايد في سورية.لم يكن من المفترض أن تتباين مواقف الجوار العربي الإسلامي من الحدث السوري، ناهيك أن تأخذ كل هذا الوقت لتتبلور في حالتي تركيا والسعودية. تدرك الأطراف المعنية جميعاً أن ما تشهده سورية لا يخرج عن حركة الثورة العربية الشاملة من أجل الحرية وإقامة حكم أكثر مصداقية وعدالة؛ الاستثناء الوحيد أن السوريين أظهروا صلابة وبسالة واستعداداً لتقديم التضحيات، لم تظهره، أو تتطلبه، أية ثورة عربية أخرى. وتدرك الأطراف المعنية في الجوار، المؤيدة للنظام السوري والمنتقدة له، أن سردية النظام لما يحدث في البلاد هي سردية كاذبة، ليس هناك ما يؤيدها، وأن حجم العنف الذي يمارسه النظام لقهر شعبه وهزيمته لم يعد من الممكن للعالم قبوله، أو تبريره بأية منظومة من القيم العربية الإسلامية. فلماذا هذا التباين إذن؟تتعلق المقاربة التفسيرية الأولى لاختلاف المواقف من الحدث السوري بالتدافع الطائفي، السني ـ الشيعي، الذي أخذ في التصاعد في عموم المشرق العربي ـ الإسلامي منذ غزو العراق واحتلاله على الأقل. فسورية، التي تقودها منذ الستينات، وخاصة منذ تولي الرئيس الأسد الأب في 1970، نخبة علوية ـ بعثية، هي الدولة الوحيدة في المشرق التي ترتبط مع الحكم الشيعي في إيران وبالحكم المهيمن عليه من القوى الشيعية ـ السياسية في العراق، وبحزب الله في لبنان، بروابط طائفية. ولأن إيران باتت تقود هذا المحور الشيعي ـ السياسي، وأن إيران حققت مكاسب استراتيحية ملموسة خلال العقدين الأخيرين في المنطقة، سواء بإطاحة نظام صدام حسين وصعود القوى الشيعية السياسية في العراق، أو تحول حزب الله إلى القوة السياسية ـ العسكرية الرئيسية في لبنان، فإن الدول العربية والإسلامية الأخرى، مثل السعودية ودول الخليج ومصر وتركيا، تنظر بقلق كبير إلى اتساع نطاق التحالف السوري ـ الإيراني واعتماد سورية المتزايد على إيران والمحور الشيعي. إطاحة حكم الأسد في سورية، بكلمة أخرى، يمثل انتصاراً للدول العربية والإسلامية ذات الأكثريات السنية وتحكمها قيادات سنية، وهزيمة كبرى لإيران والمحور الشيعي في المنطقة. أما المقاربة الثانية فتستند إلى قراءة جيوبوليتيكية لهذا الانقسام. سورية، أو بلاد الشام ككل، هي المنفذ الشمالي البري الوحيد للجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية؛ وسورية هي الممر الأقصر والأكثر أمناً لمناطق الثقل التركي الصناعي ـ الزراعي إلى المجال العربي، والمجال العربي النفطي على وجه الخصوص، وهي أيضاً منطقة التماس الوحيدة الممكنة لتركيا مع القضية الفلسطينية، القضية المركزية للعرب والمشرق؛ وسورية هي منفذ العراق الوحيد والآمن عربياً باتجاه المتوسط؛ وهي كذلك بالنسبة لإيران ولأية كتلة شيعية محتملة تقودها إيران؛ وسورية هي فوق ذلك السند الاستراتيجي وحبل الحياة السري لحزب الله. سورية، باختصار، هي هدف جيوبوليتيكي حيوي لا يمكن تعويضه لكل من هذا الأطراف، قد تؤدي خسارتها لأي منها إلى انكفاء استراتيجي طويل المدى للخاسر. التوسع الإيراني لن يتوقف وحسب، بل ويمكن أن ينقلب بخسارة سورية إلى سلسلة من التراجعات، سواء في لبنان أو في العراق.وفقدان سورية، سيجعل أية محاول تركية لتوطيد الأقدام في المشرق العربي أسيرة لإيران وحلفائها. أما حسم صراع النفوذ في سورية لصالح إيران، فلن يغلق ممر السعودية الشمالي كلية وحسب، بل وقد يضع السعودية في موقف دفاعي في مناطق جوار أخرى.ثمة شيء من الحقيقة الباردة في هاتين المقاربتين بلا شك؛ فلا التوتر الطائفي في المشرق يمكن إغفاله، ولا حقائق الجغرافيا وموازين القوى يمكن تجاهلها أو تغييرها. ولكن ذلك لا يعني أن الثورة السورية اندلعت بإرادة طائفية أو بدافع إقليمي جيوبوليتكي. ما تستبطنه هاتان المقاربتان هو تصور شبيه بديناميات ’الصراع على سورية’ في الخمسينات، عندما جعل القلق السياسي الداخلي وضعف الإرادة الوطنية القومية من سورية مسرحاً لتدافعات القوى الإقليمية والدولية في أولى عقود الحرب الباردة. ولكن الشعب السوري لم ينتفض ضد نظام بشار الأسد لأن الرئيس وأغلب النخبة الحاكمة الملتفة حوله من العلويين، ولا لأن النظام حليف لإيران وحزب الله.الحقيقة، أن الشعب السوري أكثر التزاماً بمصالح سورية في لبنان وبمسؤوليات سورية في مواجهة الدولة العبرية؛ وأن الخطوط العامة للسياسة السورية الإقليمية والخارجية لم تتغير كثيراً منذ رئاسة شكري القوتلي في الخمسينات. طوال شهور، تجاهلت السعودية، والعرب جميعاً، الحدث السوري، وتركت نظام بشار (المفترض أنه علوي) يحاول مواجهة أزمته بالطريقة التي يراها. وحتى الأتراك (المفترض أنهم سنيو التوجه) لم يترددوا في رفض التدخلات الخارجية في الشأن السوري، وبذلوا كل جهد ممكن لإنقاذ نظام الرئيس الأسد بدفعه إلى تبني مشروع إصلاح جذري. من جهة أخرى، فمن التبسيط النظر إلى سورية، حتى وهي تشتعل بالثورة وتشتغل بنفسها، قد تحولت إلى منطقة فراغ استراتيجي، مفتوحة لتسابق القوى الإقليمية والدولية. والأغلبية العربية تعيش لحظة استعادة الإرادة والمصالح، لن تسمح دول وشعوب المجال العربي باستباحة سورية، بغض النظر عن مصير نظام الأسد أو طبيعة القوى السياسية التي يمكن أن تحل محله.مصلحة سورية، ومصلحة الشعب السوري، ومصلحة كافة الأطراف المعنية، من إيران والعراق وحزب الله، إلى السعودية والأردن ومصر وتركيا، أن تتجرد في تعاملها مع الثورة السورية من التحيزات الطائفية قصيرة النظر، ومن التصورات المتسرعة بأن سورية متاحة للنفوذ الخارجي. بدون ذلك، لن تتضرر سورية والسوريون بكافة طوائفهم وحسب، بل وهذه الدول ومصالحها كذلك.’ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث