خبر : إلى أمير كلامنا، الحاضر الغائب فينا ...د. حبيب بولس

الثلاثاء 09 أغسطس 2011 09:40 ص / بتوقيت القدس +2GMT
إلى أمير كلامنا، الحاضر الغائب فينا ...د. حبيب بولس



في الذكرى الثالثة لرحيله ، إلى محمود درويش محمود، أيّها الحاضر الغائب فينا إلى الأبد،تحيّة،إنّها الذّكرى الثّالثة لرحيلك الفاجع، ولكن رغم كونها الذّكرى الثّالثة يا محمود، ما زلت تحتلّني شعرا ونثرا وأفكارا ومواقف، من هنا كلّما أردت أن أكتب عنك تَهَيَّبتُ، لأنّني على ما يبدو أخشى أن تكون الكتابة عنك مجرّد نثر لأشعارك- أو مجرّد إجترار وتكرار لآرائك الّتي حفظتها جماهير شعبنا عن ظهر قلب، ولا غرابة فهي أشعار أمير الكلام وسيّده.لا أدري كيف تلملم الكلمات يا محمود أشياءها وترحل، أو كيف تهجر الحروف أوكارها، وتجافي الجمل قلمي كلّما نويت الكتابة عنك؟! ولكنّني هذه المرّة قرّرت أن أغامر، لا بدّ أن أراوغ وأتحايل بأن أقدّم لك شيئا مِنّي. مِنّي!!! وهل ما هو مِنّي سيكون مَعفِيّا منك وخالصا!!!            لا أدري لكنّها محاولة من خلالها أحاول إستلهامك وإستيحاءك، علّ الكلمات تدفّيء برودة قبرك وتنير وحدتك فيه فَلّيْتَها تكون ضُمّة حبق، كمشة نعنع أنثرها على ضريحك لتؤنس غربتك علّها، علّها!!في ذكراك يا محمود، وفي حضرة غيابك الجسديّ، وحضورك الرّوحي تكون هذه الكلمات على رجاء أن تقبلها، وسلام عليك، سلام عليك.حبيب صباح الغضب، صباح النّصريا أهل غزّة ورام الله ونابلس وسائر أماكن تواجدنايا شبابنا وصبايانا،أمامكم نعترف،نحن جياد شاخت شجاعتها، وضمرت أجسادها،و تشكّلت قوادمها، أمّا أنتم فجيادنا  الطّالعة من الشّمس نحو الشّمس، أنتم رهان المرحلة.أيّها الشّباب والصّبايا،حين تصبح القضيّة، قضيّة شعب يذود عن مقدّساتهحين تصير القضيّة، قضيّة شعب يدافع عن كرامتهحين يقف الفلسطينيّ في العراء وحيدا يواجه أرقى أنواع الآلات العسكريّة حين ينتصب الفلسطينيّ متحدّيا غطرسة المحتلّ، وهو لا يملك سوى كرامته وحلمه الأخضر بالواحة.   تنهال عليه الذّكريات، ويخرّ أمامه الزّمن، وتتهافت عند قدميه الأشياء، فيصرخ: لا سماء فوقي، ولا أرض تحتي، أنا الفلسطينيّ بالعذاب تعمّدت وبالقهر تسربلت، فمن:  " أنشر على لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد".وأنا أبحر في ذاكرة التّاريخأمخر عباب الزّمن الريءأرجّ أعمدة الصّمت العربيّأهزّ جدران القهرأعري عهر العهرأستحضر مأساتي،أقف معها وجها لوجهأعاين أحداثهافيسكنني البارود ويحتلّني هدير المدافعأنضو عن مأساتي ملابسها، أعريها، أشرب كأسها المرّة فيتراكم في صدري الضّيق، وينتفض في الذّل.ويتقحّمني العار، ويرتدّ إلى الذّاكرة تاريخمزيجة الخيانة، ولبّة الغدر، ولحمته النّفاقأسافر في عتمة ليل الزّيف،فألتقي النّكبة شلّال خوف، ونهر رحيل،ونزيف شعب " رمت معاطفة الجبال"بكت ودّعته وطوى السّفر النّزالحريق، دمار، دخان، عويل، صراخ، بكاءوعلى سطح بيتنا المقنطر هوى الهلالفكان الخوف وكان الهلعوكان الرّحيل وكان القتالوكان أن نعى بوم ونعق غرابفعشنا في الضّياع، بين البقاء، وبين الذّهابقرى هُدمَت، قرى شُرِّد أهلهاوأخرى بقيت تنتظر من الدّهر الجوابوطن نازف، جرح ملحاح"فيا وطن، كان جدّي يفرش الحطّة تحت الدّالية ويناموالأزاهير نشاوى والغماميا زمن قمّة الجرمق كانت عاليةوالدّوالي حانية،ثمّ مال الدّهر غدرا يا زمنفيا زمن،عشتُ مع الغدر عار اللّجوءومرّ الخياموذلّ الفقر وإنكسار العوزورحت أكابر"فظلم ذوي القربى قاس يا وطنفكان صباح وكان مساء، وكانت الرّحلة من البحر الى البحر، وكان التّمزّق بين الرّحيل      والبقاء، بين البقاء والرّحيل،وكان الصّراع والطّريق طويل طويلأرحل؟ جبال مكسورة الجناح، أرض تستصرخأرحل، وطن نازف، جرح ينزّأبقى؟ وكيف البقاء يا زمن؟ وحكم الأجنبيّ ظالم يقهرأرحل؟ وأنا الّذي رسم من شرايين القلب للوطن قصيدةأرحل؟ وأنا الّذي جدل من دموع العين للوطن ضفيرةأرحل؟وأنا الّذي حفظ إنجيل الأرض وآحترف قرآن الجبالوأتقن توراة البحرأرحل؟ وأنا الّذي تعمّد في العشق حتّى النّخاعوغزل لشمس الوطن من الوجع تعويذةصلاة هي عشقي لك يا وطنمحبّتي لك مصلوبة على وجوه النساء، محفورة على قلوب الأطفال،مزروعة على جبين العذارىأرحل أم أبقى يا وطن؟والطّريق طويل، وإنتظار الفجر طويل، وعرس الضّياء بعيدلا بأس عليك يا زمن، فأنا مذ جئت تمرّست بالمصاعبوعاقرت منذ البدء المحنتقول:" الطّريق طويلَإذا كان ماذا تريد؟تقول: الخلاص بعيدوفي ظلمة اللّيل وحش وموت أكيدإذا كان قُل لا تُداور، إذا كان ماذا تريد؟"أنا سوى أرض بلادي لا أعبد شيئا،فعلى جسدي أنت يا وطنعزيمتي منك إليك عزيمة لا تفلهنا باقون فليشربوا البحرا، يا وطنعلى جسدي أنت " فالأرض خناجر تحت الأقدام الوحشيّة،والأرض مقابر للأقدام الهمجيّةباقون: القرار، باقون: الإصرارفعلى لحمي أنت يا وطنوَ"بأسناني سأحمي كلّ شبر من ثراك بأسناني".رحلتي منك إليك، عنك وفيكهنا في الرّحم منك نحن منزرعونمن جرحك سنغزل للنّصر إكليلاومن دموعك سنقصّ للطّفل حكاية الصّمود،وَ"سنُفهم الصّخر إن لم تفهم البشر أنّ الشّعوب إذا هبّت ستنتصر"فبإسم كلّ امرأة صادروا فرحتها يا وطنبإسم كلّ أمّ قتلوا زغرودتهاباقون هنا، رغم أنف الغاصب، ورغم أنف القهر وأنف الزّمن"سأظلّ هنا أمسك جرحي بيدي وألوح بالأخرىلربيع يحمل لبلادي دفء الشّمس وباقات الأزهار"سأظلّ هنا أنبش خاصرة الألم، أفتّش فيها عن بهجة،أخترق الجرح، أبحث فيه عن فرحة، أحمله بيد وبالأخرىأحمل زهرةفيا وطن،منذ "سأحمل روحي على راحتي وأهوي بها في مهاوي الرّدى"كانت الرّحلة المضنية أكثر من ستّين عامافكان صباح، وكان مساء، وكان أن شربنا التّجربة حتّى الثّمالة، وعرفناأنّ الحزن قد ينبت فرحا، وأنّ الشّر قد يلد خيرا، وأنّ المأساة قد تفرّخ أملاومنذ "هذي شراييني خذوها وانسجوا منها بيارق جيلنا المتمرّد"كانت المعرفة: من رحم الموت قد تكون الولادة، ومع الشّدة فرج، ومع اليوم غد، وخلف  السّحاب غيث.وهكذا كان يا وطن، فرغم الحزن ورغم القهر، رغم الصّمت ورغم العهر،رغم الخروج ورغم البحر، ما هنّا يوما ولا خذلناك يا وطن. بل رأينا أنّ الفرج آت،وقلنا: " فلتسمع كلّ الدّنيا فلتسمع، سنجوع ونعرى، قطعا نتقطّع، ونسف ترابك يا أرضا تتوجّع.ونموت ولكن، لن يسقط من أيدينا علم الأحرار المشرّع"كان صباح، وكان مساء، وكانت الإنتفاضة، وكان الغضب، يا وطن، شلّال فرح ونهر كرامة، فارتدّت إلى التّاريخ عزّته، وعاد إلى الزّمن إباؤه، ورجع إلى فلسطين الشّموخ، فعلت الهامة، وإنتصبت القامة، ولمع الإصرار على جبين شيخ، وشعّ التّحدّي على وجه أم، وزغرد في يد الطّفل الحجر.وزال عن الوطن التّرهّل، وسقطت عنه أقنعة الزّيف،وغادره الحزن، وقلنا:"عملاق هذا العصر،هبّ أطلع النّصرفكلّ السّابقين أطلعوا الهزيمة"فالتأم الجرح، وتآزرت السّواعد، وكان صباح، وكان مساء، وكان رجال وكان شباب وكان أطفال يرسمون بالحجر للوطن إكليل نصره. كان صباح، وكان مساء، وكانت أمّهات، يحرقن بالحجر المسافات، وبالتّضحية ينسجن للوطن حكاية عزّه." فالأمّ الّتي لم تودّع بنيها بابتسامتها إلى الزّنازين لم تحبل ولم تلد". وأنتم أيّها الشّباب والصّبايا، أنتم يا أهلنا في غزّة، ورام الله ونابلسيا من رسمتم الوطن في الذّاكرة، ويا من رفعتم إلى اليد حجرا غاضبا،                           وعلما خافقا، يا من آمنتم بالكلمة الحرّة الشّريفة، وقلتم: ملعونة وخائنة هي الكلمة الّتي لا تصبح رصاصة تطلق في وجه أعداء الحياة. وشوكة في طريق الحقّ هو القلم الّذي لا يفرز كرامة.أنتم أيّها الشّباب والصّبايا، يا أهلنا في غزّة وفي الضفة وفي كلّ مكان من فلسطين وَ"كلّ مكان ينبت العزّ طيب" فلسطين بإنتظاركم، ها هي قد إغتسلت بالتّحدّي، وتطيّبت بالصّمود، وتعطّرت بالإصرار، ها هي قد دفعت المهر غاليا، أرضا ودماء وشهداء.فهاتوا الحلم عسلا ولبانا ومرّا، هاتوا الحلم وتعالوا لنشهد سويّة زفّة الشّمس وعرس القمر.فهذه ثورة الغضب، ثورة الحجر، ثورة البشر، ثورة الشّجر،"فكونوا يا شبابنا على الشّفاه لحونا، أمطرونا بطولة وشموخا، واغسلونا من قبحنا إغسلونا".ويمينا،"سنظلّ إلى أبد الآباد، نتجدّد يا وطن الأجداد"فنحن وغزّة والضفة وشعبنا كلّه والنّصر وشمس الأحرار، على ميعاد، على ميعاد.drhbolus@yahoo.com