صورة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، وهو في قفص الاتهام، يحاكم بتهم جنائية، قد يوصله بعضها، في حال الإدانة إلى حبل المشنقة، ـ ربما مع خلفية لصورة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وهو في قفص مشابه ـ قد تشكل مادة دعائية مثالية للديمقراطيين الأميركيين في تنافسهم على الانتخابات الرئاسية المقبلة، مع الجمهوريين، وقد تكون سبباً في فوز الرئيس الحالي باراك أوباما بولاية رئاسية ثانية! ذلك أن المقارنة بين انتهاء مصير رئيسين عربيين، حتى الآن، بقفص الاتهام، ستكون لصالح الديمقراطيين الأميركيين بالقطع، لأنها تكشف بوضوح عن الفرق بين ما يحققه الديمقراطيون بالسياسة، وبين ما يحققه الجمهوريون بالحرب.واللجوء للحرب يعني إحداث التغيير بالقوة، بما يشبه العملية الجراحية، لكن إحداث التغيير بالأساليب الديمقراطية، يحتاج إلى إعداد وطول صبر وأناة.. هذا ربما يكون جوهر الخطاب الدعائي القادم للديمقراطيين الأميركيين في الانتخابات المقبلة، الذي لن يشيروا فيه بالطبع، إلى "انتهازية" الرئيس أوباما وإدارته، حين "ركب" موجة الانتفاضة الشعبية المصرية، بعد أن اندلعت بأيام، كما لن يشيروا بالطبع إلى فعلته غير الديمقراطية في اغتيال أسامة بن لادن، في وقت سابق، وكان بمقدوره أن يقبض عليه، وأن يقدمه للمحاكمة.مع ذلك فإن ما يهمنا ـ نحن العرب ـ ليس الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولا من يفوز بها، المرشح الديمقراطي أو المرشح الجمهوري، بل ما يحدث في بلادنا من تغيير ومن صراع حاد على السلطة، بين نظام الفرد، وقوى التغيير الشبابية، التي ما عاد بمقدورها العيش في ظل هذا النظام، الذي حجز التطور الاقتصادي والاجتماعي لبلادنا على مدى عقود طويلة. وإذا كانت صورة مبارك في القفص، تشبه إلى حدٍّ بعيد صورة صدام حسين في القفص نفسه، وعلى الرغم من أن المآل يكاد يكون متشابهاً، حتى لو لم يتم الحكم بإعدام مبارك، فإن ما يلاحظ، هو أن "جرائم" صدام التي أدانته المحكمة بارتكابها، وعاقبته عليها بالإعدام، إنما تمت خلال فترة حكمه الطويلة، حين اتهم بارتكاب مجازر في حلبجة وغيرها، فيما التهم التي يواجهها مبارك، تنحصر في إطار الفساد المالي وسوء استخدام السلطة، أما تهمة الضلوع في القتل، فإنما تنحصر في الأيام الأخيرة، من حكمه، حيث سقط خلال الاحتجاجات والتظاهرات السلمية نحو ثمانمائة وخمسين مواطناً مصرياً.كذلك، فإن "الأسلوب" الديمقراطي، واللجوء إلى القضاء المصري العريق، والمشهود بنزاهته، يحفظ الأيدي الأميركية، حتى لو كانت موجودة، نظيفة من أية شبهة، على عكس ما جرى مع صدام حسين. السؤال هنا، ومع ملاحظة إصرار الأنظمة العربية في سورية، وليبيا، واليمن على مواجهة الاحتجاجات الشعبية، السلمية، بالقتل، والقمع، حيث سقط حتى الآن في سورية واليمن أكثر من ضعف ما سقط من ضحايا في مصر، مع الأخذ بعين الاعتبار، عدد سكان مصر، الذي يكاد يكون ثلاثة أو أربعة أضعاف سكان اليمن، أو سورية، فيما سقط في ليبيا، ربما أكثر من عشرة أضعاف ضحايا التغيير في مصر، مع أن سكان ليبيا، ربما كانوا أكثر قليلاً من 5% من سكان مصر، السؤال هو أنه إذا كان مرجحاً ألا تتم إدانة مبارك بتهمة القتل، وأنه قد يواجه عقوبة الحبس أكثر من عقوبة الإعدام، فهل سينجو معمر أو بشار أو صالح من هذه التهمة الجنائية، بعد كل هذه المجازر التي ارتكبوها بحق مواطنين لا ذنب لهم سوى أنهم يعبّرون عن رأيهم برفض نظام حكم فرد مستبدّ بالطرق السلمية، التي كفلتها كل شرائع وقوانين الدنيا؟ لقد عبّرت حتى اللحظة هذه النماذج من الأنظمة المتداعية، في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن وسورية عن أسوأ صورة للحكم قائمة في عالم اليوم، ويؤكد لجوؤها لارتكاب جرائم القتل بحق المواطنين، على إفلاسها، وعلى نهايتها المحتومة، فهي مع هذه الجرائم فقدت كل مظهر من مظاهر الشرعية، وبذلك فإن المحاكمات التي ستنعقد، خلال هذا العام، وربما خلال أعوام قليلة قادمة، لهذه الأنظمة، لطيّ صفحة هذا الشكل المستبدّ من نظام الحكم، وذهابه إلى التاريخ، من أسوأ بواباته، في الوقت الذي سينفتح فيه باب الأمل والعصر الحديث للشعوب العربية، لتعيش حياة حرة وكريمة، كما هو حال كل شعوب الدنيا.صحيح أن مشهد محاكمة الطغاة، ينطوي على بعدٍ درامي، لكنه في الحقيقة ضروري، حتى يحدث "تغييراً" في البنية النفسية للمواطن العربي، الذي عاش حياته وفي ذهنه هالة فيها الكثير من القداسة "لمواطنين"، هم أسوأ من المواطنين العاديين، لافتقادهم إلى روح العدالة والمساواة، فيما لن يكون "إعدام" بعضهم مجرد قصاص فقط، بل طيّاً لهذه الحقبة المظلمة من تاريخ النظام السياسي العربي الحديث.العقلاء وحدهم، وربما كان الديمقراطيون الأميركيون أقل هؤلاء، هم من يدركون حقائق التاريخ، ويسيرون مع منطق التغيير والتطور، وهؤلاء يعلمون جيداً أن ما يحدث في الوقت الذي يعبّر فيه عن إرادة الشعوب العربية الحرة، وطاقتها الكامنة ـ الشباب ـ وهم في الوقت نفسه بوابتها إلى المستقبل، ليس مؤامرة، ولا خطة دولية، ولا ما إلى ذلك، ولا حتى أنه نتيجة فعل "معارض" ـ فكل هذا كان موجوداً على مدار السنوات الماضية، كما أن قوة التاريخ وإرادة الشعوب لا تفرّق بين حليف للغرب وبين معارض لسياساته في المنطقة، والأهم أن عجلة الثورة، تدور الآن، حتى داخل إسرائيل نفسها لم يقرأ حسني مبارك جيداً ما حدث مع صدّام حسين، وكان قد اعتقد أن وصوله إلى حبل المشنقة كان بسبب عدائه للأميركيين، ولم يلتقط أن سقوط صدام وبغداد بسرعة قياسية في الحرب، ما كان ليكون لو أن الشعب العراقي كان قد التفّ حوله، كما فعل المصريون مثلاً العام 1956، ولا يقرأ الآن بشار أو صالح أو معمر، ما يحدث مع بن علي ومبارك، كما أن أنظمة أخرى ـ في معظمها ملكية ـ ما زالت تنام في بحر العسل، وعلى فراش من الحرير، في الوقت الذي لا يمكن لعاقل أن يقرأ ما يحدث في كلية الشرطة بالقاهرة، إلاّ على أنه محاكمة للنظام العربي المستبد بأسره، وأنه يمثل نقطة فارقة بين ذلك العهد الذي يمضي والعصر الديمقراطي الجديد، والذي ليس هو على الطريقة الأميركية، هذه المرة.محاكمة مبارك، ما كانت ستتم، لولا إصرار القوى المدنية والشبابية المصرية، بعد ثلاثين يوماً من الاعتصام المتواصل، ومن تجديد الحراك، في التحرير، وهي تعني الإصرار على مواصلة الثورة وعلى إحداث التغيير الحقيقي والعميق في النظام والمجتمع، وعلى إلحاق الهزيمة بأركان النظام السابق، ومواجهة "تحالف العسكر والقوى التقليدية" الذي اكتفى بتنحي مبارك عن الحكم، ويمنّي النفس ببقاء "قوام" النظام السابق في الدولة والمجتمع على حدٍّ سواء.