خبر : عن الحرية والاستبداد ومعنى الاستقرار ..بقلم : خالد الحروب

الثلاثاء 26 يوليو 2011 08:13 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن الحرية والاستبداد ومعنى الاستقرار ..بقلم : خالد الحروب



هناك حاجة لنقاش معمق لمقولة الاستقرار وموضعتها في إطار التغيرات الجذرية التي تشهدها المنطقة من منطلق ما تجلبه الثورة من فوضى مؤقتة يستغلها اعداء الثورات. المدخل الاساسي التوافقي هنا هو التأكيد على مركزية الاستقرار في حياة المجتمعات وبكونه الاساس الذي تنبني عليه اية حياة جماعية صحية وآمنة. الاستقرار والأمن والحرية والكرامة والعدالة هي مطمح نضالات الإنسان منذ فجر البشرية. وتحقيق الاستقرار وضبط اي عوامل تخل بأمن المجتمعات والحواضر كان، تاريخيا، هو المهمة التي تقوم بها اية فئة حاكمة، وهو المعيار الذي يحكم المجتمع من خلاله على حاكمية واهلية الحكم واستحقاقه البقاء على رأس السلطة. على مدار حقب البشرية كان هذا الاستقرار، وهو الذي يمثل رأس مال الحكم، يُنجز على الدوام عن طريق جبروت السلطة والقمع والفرض. والمساومة التاريخية التي عقدتها الشعوب مع من يسيطر على الحكم فيها كانت تحوم دوما حول الانصياع للأمر القائم وحكامه ما دامت الحدود الدنيا من العيش الآمن متحققة حتى لو كان ذلك مترافقا مع الاستبداد. قامت هذه المساومة على تجربة كثيفة ومريرة في تواريخ المجتمعات كان عنوانها ضرورة الاختيار بين أمرين يتقاربان في مستوى المرارة: إما الاندراج في صراعات متأبدة وتنافسات بين القوى والمجموعات المتنافسة داخل اي مجتمع بحيث تعم الفوضى وينعدم الاستقرار وتستحيل معه الحياة الآمنة والطبيعية، وإما التسليم لحكم قوي مستبد يحقق الأمن ويقضي على الفوضى.بقيت هذه المعادلة هي المتسيدة في انظمة الحكم السياسي واغتنت بتنظيرات وتسويغات ربما في كل ثقافات وحضارات الإنسانية، من الصينية والهندية إلى الفارسية والعربية والإسلامية وصولا إلى الفكر الغربي مع ميكافيلي في كتابه الامير وتوماس هوبز في تنظيره لأولوية و"قداسة" الدولة ومبررات فرض الاستقرار. على ذلك يمكن القول ان الاستقرار والاستبداد ظلا من اشهر توائم التاريخ واطولهما عمرا. ولم ينفصل هذ التوأم إلا حديثا في تاريخ البشرية، فمع عصر الانوار انطلقت نظريات جديدة تعلي من إرادة الشعب وترفض فكرة الاستبداد المقيم الذي يفرضه الحاكم بمسوغ تحقيق الاستقرار. جاءت افكار الجمهورية والعقد الاجتماعي مع مونتسكيو وروسو لتنزع من ملوك اوروبا احتكارهم الحكم وتقوض كل الاسس التي قامت عليها، ولتشكل ثورة حقيقية في تاريخ الانسانية في اوجه عديدة، ومنها وعلى المدى الطويل بداية تفكيك العلاقة القديمة بين الاستقرار والاستبداد. مع افكار الارادة العامة واعلاء قيمة الفرد والشعوب بدأت العملية التاريخية المتمثلة في انتقال الافراد من مرحلة "الرعية" و"الاتباع" كما كان يُنظر إليهم من قبل الكنيسة وملوك اوروبا القرون الوسطى إلى مرحلة المواطنين كاملي الاهلية والحقوق والمساواة. وبدأت بالترافق مع ذلك عملية الانقلاب الهائل في الادوار حيث تبدل مفهوم وموقع "المواطن" متجها لاحتلال جوهر الاجتماع السياسي ومركز النظام السياسي القائم، وحيث تبدل مفهوم وموقع "الحاكم" كي يصبح مجرد مفوض مؤقت بعقد اجتماعي ذي فترة زمنية محدودة، ووظيفته خدمة المواطن وليس السيطرة عليه او الاستبداد به. لم يحدث هذا الانقلاب دفعة واحدة بطبيعة الحال، او في فترة زمنية قصيرة، او من دون اكلاف باهظة. بل استمر قرونا عدة وما زال قائما وتضمن حروبا دموية مديدة، دينية واقطاعية وملوكية، ذلك ان الاستبداد قاوم ولا يزال يقاوم بشراسة بالغة متدرعا دوما بمقولة انه الوحيد الذي يحقق الاستقرار. لكن على طول تلك القرون كان الاستبداد يخسر ارضا جديدة في كل مرة، وكانت الحرية تتمدد. انتقل الفكر الانساني مدعما بالتجربة التاريخية إلى مرحلة جديدة هي إمكانية تحقيق الاستقرار مع الحرية. استقرار الاستبداد محتمل لكنه مؤقت ونهاياته دموية على الدوام. وسبب ذلك ان آلية الاستبداد تقوم على دفن المعضلات وحشرها تحت السطح والتظاهر بأنها غير موجودة. يتوازى مع ذلك خوف "الرعية"، الافراد شبه العبيد، من مواجهة المُستبد ومطالبته بمواجهة تلك المعضلات التي يقع في جوهرها دوما الاستيلاء على الثروات العامة وانتشار الفساد وتفاقم سرطانات سوء استغلال السلطة بكل انواعها. على العكس من ذلك تشتغل آلية استقرار الحرية على مواجهة تلك المعضلات تحت الشمس ومحاولة حلها. كل فساد يظهر تتسلط عليه الاضواء ويُفضح. الشعب القائم على فكرة المواطنة القانونية والمساواة، اي الافراد الاحرار، هم من يحاسب الفاسدين والحكام، ومن خلال الفصل بين السلطات يمنعون اي تغول لفئة حاكمة او جماعة مستأثرة بثروة او قوة على حقوق الشعب وحرياته.استقرار الاستبداد يستقوي بمسوغ دائم يقول ان المجتمع، اي مجتمع، فيه مكونات وطوائف وإثنيات واديان وجماعات منفصلة ومتعادية، جاهزة للانقضاض على بعضها البعض فور انزياح قبضة الاستبداد عنها ولو قليلا. لذا فالاستبداد، حتى لو كان على حساب حرية الافراد، يضبط مكونات المجتمع المتصارعة ويقلم اظافرها ويدفعها كي تبقى مرعوبة من بطش النظام القائم. وهكذا يتم قمع الحروب الاهلية المحتملة ويعيش الجميع في استقرار، لكن في جو من الخوف الدائم. الشكل العام لهذه الفكرة وتطبيقاتها التاريخية فيها قدر كبير من الواقعية. لكن مفعولها الإنساني انتهى ولم يعد لها رأس مال حقيقي في العالم المعاصر. فالاستقرار المتحقق من قمع كل مكونات المجتمع المتصارعة في عالم اليوم المعقد والمتداخل هو استقرار موهوم ومؤقت. ذلك ان حقيقة ما يتم لا تتجاوز دفن الخلافات واسباب الصراع تحت السطح وتأجيل انفجارها. لا يعمل الاستبداد خلال حقب الاستقرار التي حققها على إبطال مفاعيل الصراعات بين الجماعات المتنافسة في المجتمع، بل يشتغل في الغالب الاعم على الحفاظ عليها واحيانا تأجيجها لأن وجودها يبرر شرعية بقاء الاستبداد ذاته. واحيانا كثيرة اخرى يتحالف الاستبداد مع جماعة، او طائفة، او عصبية، تكون هي العمود الفقري الذي يستند إليه مستعديا بقية مكونات المجتمع مستأثرا بالحكم من ناحية ومانحا المزايا والافضلية للجماعة المُتحالف معها. وهكذا فإن العلاقات بين المكونات المتنافسة في مجتمع الاستبداد تقوم على العداء المبطن والتربص الدائم المقموع بآلية الضغط التي يفرضها الحكم. وهي بهذا تكون علاقات هشة قائمة على انتظار الانفجار القادم. في الاستقرار المبني على الحرية تتصارع القوى المتنافسة داخل المجتمع بعنف شديد اولا، قد يتخذ اشكالا دموية، ثم يخف تدريجيا إلى ان تكتشف هذه القوى ان لا حل امامها سوى التعايش فيما بينها، والوصول إلى معادلات مساومية وتنازلات متبادلة. عندها يتم تقليم الزوايا الحادة والمتوترة والعنيفة لدى كل جماعة، او طائفة، او اثنية، بشكل طوعي وقناعي وتتجه الكتل الاساسية والكبرى للجماعات نحو الوسط المعتدل في النظرة لنفسها وللجماعات الاخرى. يبقى الصراع والتنافس في ما بينها قائما لكنه يتحول إلى صراع سلمي آليات التعبير عنه ديموقراطية وليست عنفية. وهكذا يتم الاعتراف بالصراعات والتنافسات والتخلي عن النظرة الطفلية الساذجة للمجتمع بأنه منسجم ومتناغم كأنه عائلة متحابة، وهي نظرة تروجها الانظمة المستبدة التي تستند إلى ترسيخ الابوية السياسية في الحكم والمجتمع. يؤدي الاعتراف بالصراعات والتنافسات داخل المجتمع إلى صلابة في التمسك بالحل الديموقراطي لتنظيمها، ليس لأنه خال من النواقص، بل لأنه الافضل نسبيا بين كل الحلول الاخرى التي وصلت إليها البشرية. في مثل هذه الحالة يتم انجاز الاستقرار ليس على حساب الحرية بل معها ومعهما تُصان كرامة الفرد المواطن وتنطلق ابداعاته وطاقاته، على عكس استقرار الاستبداد.Email: khaled.hroub@yahoo.com