دولة الجنوب السوداني هي الدولة رقم 193 التي قبلت عضوا في الأمم المتحدة ، وقد تلتقي معطيات هذه الدولة الجديدة مع معطيات الحالة الفلسطينية ولكن بمنهج مغاير ، والتشابه بين الحالتين في المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية بمعنى تلاقى كل الإرادات والفواعل المؤثرة في قيام هذه الدولة ، الولايات المتحدة تريد هذه الدولة ، الإتحاد ألأوربي يريد ها ، السودان الطرف الرئيس الذي اقتطعت منه هذه الدولة أعترف بها ، إما في الحالة الفلسطينية ، فما زالت الولايات المتحدة تهدد بفرض عقوبات على الفلسطينيين إذا ذهبوا إلى ألأمم المتحدة لانتزاع قرار دولي صعب للقبول بالدولة الفلسطينية ، موقف أوربي متأرجح ولا يمكن إن يخرج في النهاية عن الموقف الأمريكي ، إسرائيل الدولة المحتلة والمتحكمة في ألأرض التي ستقام عليها هذه الدولة تعارض وبشده قيام الدولة الفلسطينية عبر الأمم المتحدة ، لأن المسافة والفارق كبير بين دولة تأتى عبر الأمم المتحدة ، ودولة تأتى عبر المفاوضات مع إسرائيل ، ففى الحالة الثانية ستأتي الدولة بما تضعه إسرائيل من شروط تفقد هذه الدولة من مقوماتها الحقيقية ، أما في حالة ألأمم المتحدة المطلوب فقط إن تعلن هذه الدولة عن قبولها لميثاق الأمم المتحدة وأن تكون محبة للسلام ، وأن تكون حدودها معروفة ، وقبول إرادة الدول الخمس الدائمين في مجلس ألأمن . وفى الحالتين يتحكم عامل المصلحة في تفسير سلوك الدول السياسي ، في حالة جنوب السودان توجد مصلحة في تجزئة السودان الكبير إلى أكثر من دولة وفقا لرؤية إستراتيجية لإعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للعالم العربي الذي يكون للولايات المتحدة دور مباشر فيها ، أما في الحالة الفلسطينية فقيام دولة فلسطين فيه إضافة للدول العربية ، وفيه تحديد لإسرائيل كدولة في إطار حدود معلنه لأول مرة ، وفيه شكل جديد لصورة التحالفات الإقليمية ، وفيه خوف من أن يحكم هذه الدولة في المستقبل الإسلاميون الذين قد يشكلون خطرا مباشرا على مصالح كافة القوى الدولية والإقليمية . وقد سبق أن ذكرنا في مقالة أن هناك فارق كبير بين اعتراف الدول بفلسطين كدولة وهو اعتراف قائم ، وبين قبولها كعضو كامل في ألأمم المتحدة ، فهنا المتغيرات والمصلحة سيعاد النظر فيها من قبل الدول . نحن أمام حالة غير مسبوقة في أدبيات قيام الدول، ففلسطين وعلى امتداد تاريخها حالت الإرادة الدولية دون قيام هذه الدولة ، وأول مرة اتفقت هذه ألإرادة الدولية على قيام دولة فلسطينية في القرار رقم 181 ، وهنا قد تبدو أهمية هذه القرار فى أنه إعلان صريح بقبول الدولة الفلسطينية ، لكن هذا القرار وهذا القبول كان مرتبطا بقيام إسرائيل كدولة ، فهو مشروط بقبول إسرائيل عضوا في ألأمم المتحدة ، واليوم توجد بلا شك إرادة دولية بقيام وقبول هذه الدولة ولكن في ظل معطيات جديده ، أبرزها تأثير العامل الإسرائيلي الذي لم يكن موجودا في حالة القرار رقم 181 ، أما اليوم فدور إسرائيل واضح ومؤثر ، وهذا الدور مسنودا ومدعوما بالدور الأمريكي . وهذا أول ما ينبغي أن يدركه الفلسطينيون . والأمر الثاني الذي لم يدركه الفلسطينيون أنهم ورغم نضالهم الطويل وتضحياتهم البشرية الكبيرة وعدد الشهداء أنهم قبلوا بالحل السياسي والتفاوضي ، وهذا يحتم عليهم أهمية تفعيل الأسلوب التفاوضي بطريقة جديدة ، وأقصد بذلك تفعيل التفاوض مع الدول المؤثرة دوليا لتدرك أن لها مصلحة مباشرة في قيام هذه الدولة . وان هذه الدولة ستكون إضافة جديدة في السلام والأمن الدوليين مستقبلا. وفى الوقت ذاته وقد يشكل هذا أحد أهم العوامل التي تفسر معارضة قيام هذه الدولة عبر الأمم المتحدة ، أن القضية الفلسطينية ليست مجرد دولة ، ففى حالة دولة جنوب السودان لا توجد نفس المشاكل ، لا توجد قضية لا جئيين ، ولا توجد قضية حدود ، ولا توجد مشكلة المساحة ، ولا توجد قضايا إقتصادية وأمنية وغير ذلك من القضايا المكونة للقضية الفلسطينية ، فالحالة الفلسطينية حالة استثنائية في قيام الدول ، فالأصل توجد دولة واحده ، واليوم المطلوب استنبات دولة أخرى من قلب هذه الدولة ، ومما قد يزيد ألأمور تعقيدا أن الدولة الفلسطينية ستقوم من قلب هذه الدولة ، ونظرة واحده على موقع الضفة الغربية وتداخلها في قلب هذه الدولة يشكل في حد ذاته معضلة أمنية واقتصادية تحتاج إلى إيجاد حلول إبداعية وتوافقية وتفاوضية . وقد يتساءل البعض أن في هذا الرأي دعوة للعودة للتفاوض لقيام الدولة الفلسطينية ، وكما أشرت مفهوم التفاوض قد يكون جديدا وبقواعد جديدة ، والدولة الفلسطينية إما أن تقوم عبر التفاوض ، وإما عملية تحرر طويلة ، وهذا ما ينبغى أن يقرره الفلسطينيون ، وان يحددوا موقفهم أيضا من كل القضايا المكونة للقضية الفلسطينية ، وحتى أكون واضحا فالمسألة ليست بالسهولة التي نتصورها ، وعملية الذهاب إلى ألأمم المتحدة ليست مجرد رحلة او نزهة أو زيارة يقوم بها الرئيس عباس ، وليست مجرد إلقاء خطاب سياسي من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة .هى معركة دبلوماسية طويلة ، وقد نفشل في مرحلة منها ، وقد نحتاج إلى مراحل كثيرة ، لذلك الخطأ الذي يقع فيه الفلسطينيون كما وقعوا في ذلك قبل ذلك أنهم يصورون المسألة وكأنها منتهية مع أيلول القادم ، وكأن الدولة قد أصبحت في يدهم . أعتقد ان هناك فرصة جديدة للتفاوض عبر قواعد وضمانات جديدة من الضروري الإستفاده منها ، وهنا وضع الولايات امام خياراتها إما قيام هذه الدولة ، وإما الذهاب إلى ألأمم المتحدة ، وهذا يتطلب رؤية سياسية وتفاوضية واضحة ، ولا يبدو أن هذا متوفر في الوقت ذاته بسبب تعقيدات الحالة الفلسطينية ، واستمرار التناقض والتباعد السياسي في المواقف بين القوتين الرئيسيتين فتح وحماس . والسؤال ثانية هل للدولة الفلسطينية ثمن سياسي لا بد من دفعه ؟ وهل قيام الدولة وسيلة من وسائل إدارة النزاع ؟ أم وسيلة من وسائل حل القضية ؟ وهذا أعتقد أحد مظاهر الخلاف بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي ، فالفلسطينيون يبدو أنهم يتعاطوا مع قيام الدولة كأحد وسائل إدارة الصراع ، وليس حلها ، وهو ما يعنى استمرار المطالبة بإيجاد حل لكافة القضايا الرئيسة ، أما إسرائيل ومعها الولايات المتحدة تريد قيام الدولة في إطار حل الصراع ، وهو ما يعنى التنازل عن كل القضايا الرئيسة ألأخرى ، فمثلا هل ستقبل إسرائيل بقيام الدولة وتنفيذ القرار رقم 194 الخاص باللاجئين ، والوضع ينطبق على القدس . ؟ والسؤال الأخير هل يعنى قيام الدولة الفلسطينية إطارا جديدا لحل هذه القضايا في إطار إقليمي جديد.؟كل هذه المعطيات توضح أن نموذج جنوب السودان يختلف عن النموذج الفلسطيني ، وان هناك الكثير على الفلسطينيين للقيام به من أجل الوصول إلى هذه الدولة أهمها الاتفاق حول ماهية الدولة التي يريدونها . ولهذه ألأسباب يبدو أن الوصول إلى الرقم 194 تكتنفه تحديات وصعوبات كثيرة وقد لا ترتبط بحياة القادة والسياسيين ، وهذا فارق آخر بين رؤية سياسيينا ورؤية قادة إسرائيل ، السياسيون لدينا يريدون الدولة في حياتهم ، ولا يعملون على وضع ألأسس الأولى لها ، عكس إسرائيل فعندما خرج هيرتزل في مؤتمره عام 1897 وقال أنه يرى قيام إسرائيل كدولة بعد خمسين عاما ، لم يكن مجرد رؤية سياسية ، بل كانت حسابات سياسية ، واستعدادات لوضع مقومات الدولة التي يريدها ، أما في حالتنا فنحن كمن يدور في طاحونة هواء معلقة في السماء!!