خبر : فتح وحماس: الرؤية والمسؤولية التاريخية..د. أحمد يوسف

الجمعة 15 يوليو 2011 07:08 م / بتوقيت القدس +2GMT
فتح وحماس: الرؤية والمسؤولية التاريخية..د. أحمد يوسف



لا شك أن من المهم للمفكر أو الباحث أن يعاظم من حالة الفهم للوطن الذي يعيش فيه من خلال قراءة ما يقوله الآخرون في الساحتين الإقليمية والدولية بالحوار تارة، وبالتحليل تارة أخرى. إن متابعة مشاهد الوطن وأحواله في عقول الآخرين ضمن منظومة الصراع مع الاحتلال يضيء أفق الرؤية، ويعمل كذلك على توسعة مساحات الوعي والإدراك. لقد غبت ثلاثة أسابيع عن قطاع غزة، تنقلت فيها بين أنقرة واسطنبول ودمشق والجزائر والقاهرة، والتقيت فيها بشخصيات إسلامية ودولية وازنة، إضافة إلى قيادات فلسطينية وعربية جمعتنا معها جميعاً مصارحات أخوية ونقاشات سياسية موسعة، حيث إن القضية الفلسطينية - حقيقة - تستحوذ على اهتمامات الجميع، وهي بحق تحظى بمتابعات وأشغال دوائر إستراتيجية هامة في هذا العالم. تركيا هي البداية اصطحبني أحد الأصدقاء لصلاة الجمعة في مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بمنطقة "السلطان أيوب" أحد أجمل ضواحي اسطنبول، وبعدها أخذ بيدي للسلام على بروفيسور تركي يقطن قريباً من المسجد، وما أن علم الرجل أنني فلسطيني حتى أصرَّ على دخولي لمكتبته للتعارف والقيام بواجب الضيافة، وتقديمي لبعض أصدقائه باعتبار أنه ظفر بضيف كريم من أرض الإسراء والمعراج.. كانت أول كلماته بعد الترحيب "إن فلسطين هي كُربة قلوبنا، ووجعنا الدائم، وأن واجبنا جميعاً أن نعمل على تحريرها، وأن على الأمة أن تقف بأسرها لدعم شعبها ورفع المعاناة عنه..". لم يتوقف هذا التركي عن الحديث - بكل مشاعره - عن حبه لفلسطين وإكباره لتضحيات أهلها، ووعدني أن يأتي مع المتضامنين القادمين على سفينة مرمرة، داعياً الله أن يوفق في ذلك، حيث إن هناك أكثر من نصف مليون تركي تقدموا بطلب القدوم على ظهر هذه السفينة إلى غزة، ولكن المتاح هو فقط لحوالي 450 متضامن، وهو لا يتوقف عن الدعاء أن يكون واحداً من بينهم.. للأسف، ألغيت الرحلة لاعتبارات سياسية، ونجحت إسرائيل في إفشال جهود تحريك الأسطول من الموانئ اليونانية. في الواقع، كانت الأسئلة التي يطرحها كل من قابلناه سواء من الأتراك أو الشخصيات الإسلامية التي كانت قادمة للمشاركة في فعاليات ملتقى الحركة الإسلامية التركية "مللي قوروش"، والذي تجاوز حشد حضوره العشرين ألفاً اكتظ بهم إستاد مدينة إزمت التي تبعد 70 كم عن استانبول، وكان بينهم أكثر من مائة شخصية إسلامية جاءت من أرجاء الدنيا قاطبة لتشهد الحفل الذي يقام سنوياً في ذكرى فتح القسطنطينية؛ أي في التاسع والعشرين من مايو. لقد كانت فلسطين حاضرة على ألسنة كل من تكلموا من قيادات هذه الحركة الإسلامية، وكانت الهتافات على ألسنة الشباب الذين ملئوا المدرجات لاهبة ومدوية. ومع كل وجه التقيناه كان السؤال: ما هي أخبار المصالحة؟ ومتى تتشكل الحكومة وينتهي الانقسام؟ وما هو وضع الحصار؟ وهل تغير الحال على المعبر بعد الثورة في مصر؟ كنت كعادتي أتحدث مع كل هؤلاء بتفاؤل كبير، مع علمي بأن الأمور لا تسير بالسرعة التي تنتظرها جماهير الأمتين العربية والإسلامية. في الواقع، لا أحد يفهم سرَّ هذا البطء في الخطوات لإتمام المصالحة وإنهاء الانقسام، فالساحات الخارجية - وخاصة الإقليمية منها - لا تفهم أبعاد الخلافات القائمة بيننا، لأن وعيها لا يرى فينا إلا شعباً واحداً يواجه محتلاً يغتصب الأرض ويسومنا جميعاً سوء العذاب، فلماذا يختلف الهدف وينحرف السلاح؟؟ كنت أحاول أن أتعاطى برؤية تفاؤلية تبعث الأمل في نفوس هؤلاء الذين أحبوا فلسطين وجعلوها قضيتهم المركزية وفي صدارة أجندتهم النضالية. استانبول: ذكرى العدوان على أسطول الحرية في ليلة 30 مايو الماضي، خرج أكثر من عشرة ألاف تركي في حشودات ملأت شارع الاستقلال الشهير في اسطنبول باتجاه "ساحة تكسيم"، حيث كان مهرجان إحياء الذكرى الأولى لمجزرة أسطول الحرية في الساعة العاشرة ليلاً. انطلقت للمشاركة في المهرجان مع بعض أصدقائي الأتراك، وإذا بنا نجد أنفسنا وسط زحام هائل من الشباب والشابات يهتفون بالموت لإسرائيل، ويرفعون الأعلام والرايات التي تحمل شعارات تشيد بالمقاومة الفلسطينية وتندد بالصهيونية باللغات التركية والعربية والإنجليزية والعبرية. سألت أحد القيادات التركية التي كنت بصحبتها من أين جاء لهؤلاء الشباب كلُّ هذا الحب والحماس لفلسطين؟ قال إنه غراس السيد نجم الدين أربكان، لقد أحب هذا الرجل (رحمه الله) فلسطين والمسجد الأقصى، وجعلها تعيش فينا، فهي اليوم قضيتنا وعنوان عريض لجهادنا السياسي والإنساني، ولن نتخلى عنها، والشباب يتوقون للموت في سبيلها. لم استغرب هذا القول، وأتذكر عندما ذهبنا لشراء بعض الحلوى من إحدى المحلات التجارية بمدينة أنقرة، وما أن علم الرجل أننا من فلسطين حتى أخذ يتلفظ بكلمات مثل يحي عيّاش، أحمد ياسين، حماس، القسّام.. وعندما أخبرناه أننا سندفع له بالدولار، قال: آسف نحن نخشى أن تكون هذه العملة مزيفة، ولكن إن شئتم يمكن أن تأخذوا ما اشتريتموه مجاناً.. وبعد أن عرف بأننا مسئولون حكوميون ونواب من غزة، اتصل بصاحب المحل، وقال له: إن إخوة من فلسطين يريدون أن يدفعوا بالدولار وأنهم من حماس، جاء الرد: لا بأس، أهلاً وسهلاً بهم. لقاءات عدة جمعتني مع أخوة من مؤسسات إسلامية في اسطنبول، وكان السؤال في بعضها هو حول رؤيتنا للصراع مع إسرائيل وللدور التركي المطلوب فيه؟ وكذلك حول الاستعدادات التي تجري لكسر الحصار عن غزة، والتي تشارك فيها مؤسسة (IHH) التركية.. قلت إننا نُعلق آمالاً كبيرة على الدور التركي الرسمي والشعبي، فتركيا اليوم غدت عنواناً كبيراً لدعم قضيتنا وشعبنا، ومكانة تركيا بعد شهداء أسطول الحرية واللغة التضامنية التي يتحدث بها السيد رجب طيب أردوغان أصبحت قطعة من كياننا، ويكفي أن تمر في شوارع قطاع غزة لترى الأعلام التركية ترفرف في سمائها كما أن الكثير من المطاعم والمحلات التجارية أخذت تحمل أسماء مثل اسطنبول ومرمرة، ولا تستغرب أن تجد أطفالاً يولدون وأسماؤهم اليوم أردوغان، وأربكان، بولند، ومرمرة... الخ. إن تركيا اليوم هي نموذج في السياسة والموقف، وقد تعلق الكثير من أبناء شعبنا بها، ويعولون كثيراً على مواقفها القوية الداعمة لحق شعبنا في الحرية والاستقلال. لا تختلف هذه المشاعر في تركيا اليوم عنها في مصر والجزائر، فالكل ينظر لفلسطين باعتبارها الجوهرة المفقودة، وصمود شعبها وثبات مقاومته هو بمثابة المحارب الأخير "The Last Samurai"، المدافع بشرف عما تبقى من قلعة الكرامة العربية والإسلامية. الجزائر: ثائر من أجل فلسطين في الجزائر لا تخلو أي احتفالية رسمية أو شعبية دون مشاركة فلسطينية فيها، لقد تشرفنا أن نكون ضيوفاً على حركة مجتمع السلم (حمس) في الذكرى العشرين لتأسيسها مع عدد من الوزراء والنواب من قيادات حركة حماس، وقد كان حجم الحفاوة والترحيب كبيراً، يعكس روح العاطفة الجياشة لهذا الشعب تجاه فلسطين وقضيتها، والتي عبرت عنها قبل أربعة عقود مقولة الرئيس الراحل هواري بومدين "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". الكل في الجزائر يسأل عن المصالحة وعن إنهاء الانقسام وعن وحدة الشعب الفلسطيني في وجه المحتل الغاصب، تساؤلات تجعلك تشعر بالحرج الشديد، حيث إن الإجابات المتعثرة حول قرب انجاز المصالحة وإعادة الإمساك بزمام الأمور تُبقى حالة القلق قائمة بكل ما يعقبها من حزن ونظرات عاتبة. ففي كل تجمع شاركنا فيه أكد الجزائريون وقوفهم معنا، واستعدادهم لفدائنا بالمهج والأرواح، كما أن حكومة السيد عبد العزيز بوتفليقة لم تتأخر يوماً في الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الشعب الفلسطيني، وهي ربما الدولة العربية الوحيدة التي تدفع بانتظام التزاماتها المالية لصندوق فلسطين في الجامعة العربية. وقد شاهدنا في كل قوافل كسر الحصار حضوراً جزائرياً مميزاً، ومساهمات مشكورة على مستوى المساعدات الإنسانية، حيث فرضت الجزائر بعطائها المشكور مساحة لأعلامها أن ترفرف فوق الكثير من المؤسسات الفلسطينية التي تقدم الخدمات الطبية والإغاثية. اليوم، الجزائر لها رجالاتها التي لم تبخل في عطائها لفلسطين، ولم تنس دماء شهدائها الذين سقطوا دفاعاً عن هذه الأرض المباركة في الأربعينيات، فالقدس في عيونهم، وشعارهم الدائم "نفنى ولا تهون". يكفي أن نشهد لحركة مجتمع السلم (حمس) ولرئيسها أبو جرة سلطاني حرصهم الدائم على أن تكون كوادر الحركة حاضرة ومساهمة في كل الأنشطة الإقليمية والدولية الخاصة بفلسطين والمسجد الأقصى.. لم يغب إسلاميو الجزائر عن حراك أممي يعزز من صمود أهل فلسطين أو يرفع من شأنهم إلا وكانوا السبَّاقين إليه، حيث إنهم رضعوا لبان حب فلسطين من الشيخ المؤسس محفوظ نحناح (رحمه الله) الذي كانت فلسطين حيَّة على لسانه وفي وجدانه؛ باعتبارها القضية المركزية للأمة. مصر: دائماً في خاطري لا يمكن أن تزور مصر ولا يستوقفك مشهد ميدان التحرير وشباب الثورة المصرية، ففي مصر اليوم الكثير مما نتطلع إليه ونأمل فيه؛ فمصر هي عنوان العرب وفيها مرابع العز والمجد التليد.. لقد حباني المولى (عز وجل) بصحبة الكثير من أبنائها خلال سنوات الدراسة في القاهرة والولايات المتحدة الأمريكية، كما عرفت العديد من الإعلاميين والمفكرين وبعض رجالات السياسة عبر لقاءات جمعتني بهم في ملتقيات دولية داخل مصر وخارجها. الكل يتحدث بحماس شديد عن روح جديدة تسري في كيان هذا البلد العريق الحضارة والكرامة، ففلسطين بأهلها وتاريخها وجيرتها مغروسة في قلوب أهل مصر ومسكونة في عيونهم.. والذين التقيناهم عبر زيارتنا للقاهرة طرحوا علينا أكثر من سؤال: "إيه أخبار المصالحة؟" وهل تشهدون أثراً للتغيير في معبر رفح بعد الثورة.؟ بصراحة، حرارة اللقاءات وجدية النقاش تجعلك تشعر بأن الشعب المصري – حقيقة – هم "من أهل البيت"، قلوبهم معنا وسيوفهم مشرعة من أجل قضيتنا، وهم من أصدق العرب عاطفة لنا، وفطرتهم السياسية مجبولة بالشعور بالمسئولية التاريخية والإنسانية والأخلاقية والقومية تجاه تحرير ارض فلسطين.. هذه المشاعر تلمسها على طول الطريق من معبر رفح إلى الإسماعيلية وعلية حيث تنتشر حواجز الجيش المصري الذي تلقاك بالترحاب " أهلاً بك في مصر”، وتمد يدها بالتحية والسلام. ندعو الله أن يلتئم شملنا بالمصالحة وإنهاء الانقسام، كما ندعو لمصر وثورتها أن يتحقق المراد من "الشعب يريد..."، لينعم هذا البلد الحبيب بالأمن والاستقرار وبالحرية والازدهار. ختاماً: ليس لنا غير المصالحة من سبيل إن هذه اللقاءات في تركيا والجزائر ومصر لها محور واحد تدور حوله كل الحوارات؛ أيها الفلسطينيون توحدوا واجمعوا صفكم وكونوا يداً على من عاداكم.. لن ينفعكم عربي أو عجمي إذا ذهبت ريحكم وانكسرت شوكتكم، وحتى تصلكم نسائم الربيع العربي، وتهب عليكم نفحات فجره، فلا أقل من تطهير ساحات الخلاف وتظهير إطارات الرؤية بأنكم عند حُسن ظن الجميع بكم. إننا – كفلسطينيين – نتحمل كامل المسئولية التاريخية أمام الله وشعبنا وأمتنا العربية والإسلامية لإثبات جدارتنا بهذا الوطن؛ نحرره معاً ونبنيه معاً، وإلا فإن حالنا - إذا طالت القطيعة والانقسام - لن يخرج في واقعه المأساوي عما عناه الشاعر بقوله: "هيّا لنقتسم الوطن.. ثلثٌ لنا.. ثلثٌ لكم.. ثلثٌ لمن قاد القطيعَ إلى الإحن". ومن كانت في عينيه بقيَّة من دموع فليبكي معي هذا الوطن.