يتمثّل "حزب التحرير" إلى حدودٍ بعيدة تجربة ومواقف حركة طالبان، وطريقة وصولها إلى السلطة في أفغانستان، بعد أن دبّ الخلاف بين رفاق سلاح التحرير من السوفيات من أنصار أحمد شاه مسعود وقلب الدين حكمتيار، حيث انسلّ "طلاب علوم الدين" من بين الصفوف الخلفية، وحكموا الدولة الفقيرة تحت شعار "خلافي" ـ نسبة إلى الخلافة ـ ثم قاموا "بتطبيق" ما يعتقدون أنه أصول الدين في حكم المجتمع المسلم."حزب التحرير" في بلادنا، ورغم أنه موجود منذ العهد الأردني، فإنه لم يظهر فاعلاً، على النحو الذي يظهر عليه هذه الأيام، وكأن أربعة وأربعين عاماً من الاحتلال، لم تشكل باعثاً له، وما تخللها من كفاح مسلح، ثم من انتفاضتين وفعل وطني مقاوم متواصل، وحتى قبل ذلك، أي منذ نكبة فلسطين عام 48، وهو بالمناسبة، وعلى عكس الحركة الإخوانية مثلاً ـ لا يوجد في مناطق 48 ـ يظهر إذاً بفاعلية من بين شقوق الخلاف بين "فتح" و"حماس"، حيث إنه إذا كانت طالبان قد انسلّت من بوابة الصراع بين حكمتيار وشاه مسعود، فإن "حزب التحرير"، ينسلّ الآن من بوابة الصراع بين "فتح" و"حماس".المفارقة هي أن فلسطين لم تتحرّر بعد، وإن كانت تبدو للكثيرين، بمن فيهم على ما يبدو هذا الحزب ـ على مرمى حجر من ذلك، لذا ورغم وجوده كما أسلفنا ـ منذ العهد الأردني، فإن 44 سنة من الاحتلال، لم يسجل خلالها، أن سقط له شهيد برصاص الاحتلال، أو أن له أسرى أو جرحى أو ما إلى ذلك، على عكس "فتح" و"حماس" وكل الفصائل بالطبع.وفي الحقيقة، فإن الحزب الذي يظهر بين فينة وأخرى، من خلال مسيرات ومهرجانات، يرفع خلالها الشعارات على الجدران وفي الشوارع العامة، ما زال يتجنب أي شكل من أشكال المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، فشعاراته تقتصر على الجانب الدعوي، فيما يملأ صدور كوادره وعناصره "غلٌّ" دفين تجاه السلطة الوطنية، وعادة ما تنطلق مسيراته من القدس إلى رام الله، أي أن الحزب يدير ظهره للاحتلال ويتوجه بالعراك ضد السلطة، رافعاً شعار الخلافة بدلاً من شعارات التحرير.السؤال هنا لا يقتصر عند هذه الحدود، بل يثير جدلاً لدى نخبة المثقفين والسياسيين والمهتمين، فإن لم يكن المقصود الخلافة العثمانية، فإنما واحدة من اثنتين: الخلافة الأموية أو الخلافة العباسية، ذلك أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ومن بعده خلفاؤه الراشدون، لم يقيموا "دولة" إسلامية بقدر ما أقاموا مجتمعاً إسلامياً، ففي حياة النبي ومن تلاه ـ أبو بكر وعمر ـ لم تكن هناك أجهزة أمن ولا جيش محترف، حيث كان منادي الرسول يدعو إلى الجهاد، حين يقرر "قائدهم" الإعداد لحملة تحارب الكفار، وما كانت تلك الحروب أصلاً بهدف إقامة "إمبراطورية" أو دولة إسلامية، بل بهدف نشر الدين، والدليل أن الجيوش الإسلامية كانت تعود إلى المدينة بعد أن تحقق النصر.يمكن هنا الاستعانة بكتابات د. جمال البنّا، فهي تشرح هذا الأمر بعمق وتفصيل، وعلى ذلك يمكن القول: إن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وخلفاءه الراشدين أقاموا مجتمعاً مسلماً، وكان همهم نشر الدين الحنيف، وليس الوصول إلى الحكم أو إقامة الملك، ولذا خلت النصوص ـ الكتاب والسنّة ـ من أي وصف "لنظام الحكم" وكانت الأحكام خاصة، بالنواحي الشخصية والاجتماعية التي تحقق العدالة والتعايش بين الأفراد على قاعدة من العدالة والمساواة.الصراع على الدولة، ظهر في عهد آخر خليفة راشد، علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وكان قد بدأ خفياً في عهد عثمان من قبله، وليس صدفة، أن ينهزم الاتجاه الأخلاقي/ العقائدي مقابل الاتجاه الدنيوي/ المالي، وما نتج عن ذلك من انتقال عاصمة المسلمين من المدينة إلى دمشق ـ حاضرة دولة الغساسنة العرب، ومن ثم إلى بغداد ـ حاضرة دولة المناذرة العرب ـ بعد نحو مائتي سنة، حيث كانت "دولة الخلافة" ـ أي الدولة الإسلامية دولة ملكية وراثية، يحكمها الفرد عبر السلالة ـ لا تختلف في شيء عن ممالك الغرب ولا عن إمبراطوريات الشرق، فظهر "العسس"، وظهرت الضرائب والأتاوات، وحكم البلاد، حيث تنعّم الملك (وكان يسمى خليفة) بكل مظاهر الترف من الذهب إلى النساء!سيكون الأمر ـ بالطبع ـ أسوأ، بكثير لو كان نموذج الخلافة الذي يتشكل في أذهان "التحريريين" وغيرهم، الخلافة العثمانية، حيث لا أحد بحاجة إلى تعداد ما عانى منه الناس من فقر وقهر خلال أربعة قرون، من الجهل الذي ساد بلاد المسلمين ـ تركاً وعرباً ـ وتكفي هنا الإشارة إلى أن الأتراك أنفسهم الذين كانوا أصحاب الخلافة ـ وكانوا الطبقة الحاكمة، حيث كان الولاة وكبار رجالات الدولة، حتى في الأقطار العربية منهم ـ الأتراك، تعلّموا الدرس جيداً، وأدركوا أن سبب انهيار دولتهم الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى، كان تخلفها عن الغرب، لذا قام حزب "تركيا الفتاة" ـ بقيادة مصطفى كمال ـ الذي سمّاه الأتراك ـ أتاتورك ـ أي أبو الأتراك ـ بتحديث تركيا.وها هي الآن تركيا، وبعد أكثر من عقدين من وصول "الإسلاميين" للحكم، تحكم وفق نظام ديمقراطي/ عصري، تقوم بإصلاح المجتمع عبر منظومة الأخلاق الإسلامية، وتعيد بناء مؤسسات الدولة وفق الطريقة الديمقراطية، على أساس القانون الوضعي، وفي ظل سيادة القانون والمساواة على أساس المواطنة، ولم يخرج أحد من حزب "الرفاه والعدالة"، بالدعوة إلى إقامة نظام الخلافة!.ببساطة لأن ذلك خارج منطق العصر، ولأن نظام الخلافة نظام حكم الفرد، وهو نظام ملكي غير ديمقراطي، لا يمكن إلاّ أن يكون وصفة لانتحار للمجتمعات التي تأخذ به أو يمكن أن تأخذ به!في الحقيقة فإن نظام الحكم إنما هو نظام دنيوي، يتوافق الناس الذين يعيشون في وطن أو بلد مستقل على طبيعته من خلال إجراء الاستفتاءات، حيث تقر خلالها الدساتير، ومن خلال إجراء الانتخابات العامة، حيث يتم اختيار البرامج التي تسير على هديها الدولة في مرحلة معينة، ولا يمكن للشعارات العامة، أن تعفي الناس من الدخول في التفاصيل، أو أن تكتفي ببريق الشعار، والتفاصيل لها علاقة بالنظام العام، أي بإدارة أحوال الناس، الذين هم مختلفون ومتعددون في أفكارهم وآرائهم وحتى معتقداتهم، وليس هناك أكفأ من النظام الديمقراطي، حيث يتوافق الناس في اللحظة المحددة، وفي المكان المحدد على التعايش معاً، على أن يحترم كل واحد خصوصية وحقوق الآخرين!والتعدد لا يشمل الأفراد وحسب، ولكن الدول والحكومات، فبلاد المسلمين تشهد أنظمة حكم متباينة، من النظام الملكي المستبد، كما هو الحال في نحو ثماني دول عربية، إلى النظام الجمهوري الشمولي، حيث حكم الفرد المستبد أيضاً، كما هو حال معظم بقية الدول العربية، إلى نظام الحكم الديمقراطي/ البرلماني، كما هو حال تركيا، باكستان وبنغلاديش وحتى أندونيسيا، حيث يبدو أن "الاستبداد" بات سمة أو وصفة تلازم العرب الآن، وربما أن تجربة طالبان ـ حتى ـ تأثرت في هذا الشأن ـ رغم أنها خرجت من عباءة علوم الدين الباكستانية ـ بالقاعدة، وهي تنظيم "عربي" بالأساس، فيما المسلمون من غير العرب ـ باستثناء إيران الآن ـ أكثر اعتدالاً وانفتاحاً على العصر، وأكثر دخولاً له، يزاوجون في ـ ماليزيا وتركيا ـ بين أخلاق السلف ومدنية العصر الحديث، حيث كانت الديمقراطية سبباً في تقدم ماليزيا الاقتصادي، وفي نمو الاقتصاد التركي، الذي بات يعد واحداً من أكثر اقتصاديات العالم نمواً خلال السنوات الأخيرة. Rajab22@hotmail.com