خبر : دور تركيا في القضية الفلسطينية (دراسة) بقلم: رجب الباسل

الخميس 08 سبتمبر 2011 05:24 م / بتوقيت القدس +2GMT
دور تركيا في القضية الفلسطينية (دراسة) بقلم: رجب الباسل



في الفترة من 2002-2010(فترة حكم العدالة والتنمية الاولى والثانية) مقدمةشهد العالم خلال السنوات القليلة الماضية تصاعدا مطردا وملحوظا في الدور التركي، سواء على المستوى الإقليمي أو حتى على المستوى الدولي، وكان أبرز هذه الأدوار، هو الدور التركي في القضية الفلسطينية، وهو الدور الذي أثار الكثير من التكهنات والتساؤلات خاصة في ظل سيطرة حزب العدالة والتنمية ذي الميول الإسلامية على الحكم. فثمة قائل أن الدور التركي المساند للقضية الفلسطينية ينبع من توجه قيادات الحزب التي تتولى الحكم على أساس خلفيتهم الإسلامية، والتي لابد أن تنحاز للجانب الفلسطيني وهو ما يوفر من جانب آخر شعبية وأرضية للحكومة التركية داخليا وخارجيا. وثمة رأي أن  السياسة الدولية لا تعرف الأيدلوجيات، ولكنها تعرف المصالح، وأن السياسة الخارجية للحكومة التركية تعبر عن مصالح تركيا العليا، وأن كل خطواتها إنما تصب في ذلك الاتجاه، حتى وإن بدا عكس ذلك.  فالدور المتصاعد والنفوذ المتنامي هو في حقيقته مصلحة تركية؛ بهدف احتلال مساحات نفوذ على حساب أطراف أخرى بدت منكمشة، أو في مواجهة قوى أخرى تمددت، وأن القضية الفلسطينية هي المجال الأكبر والأول لاحتلال تلك المكانة. وثمة رأي ثالث؛ أن الدور التركي-المتصاعد في المنطقة وفي إطاره القضية الفلسطينية- جاء طبيعيا في إطار الرغبة الأمريكية في تقديم صورة للدولة الديمقراطية الإسلامية التى يمكن أن يتولى الإسلاميون فيها الحكم في ظل دستور علماني وعدم صدام مع المصالح الأمريكية الكبرى في المنطقة. في إطار هذه التساؤلات وفي محاولة للوصول إلى تفسير علمي لذلك الموقف التركي خلال السنوات السبع الأخيرة، تأتي تلك الدراسة التي أحببت المشاركة بها في المؤتمر العربي التركي للعلوم الاجتماعية، والذي يضم نخبة من الباحثين العرب والمسلمين من كل أنحاء عالمنا العربي والإسلامي، ولعلها تكون إضافة في هذا المؤتمر الذي يمثل في حد ذاته أحد تجليات الدور التركي في مد جسور التواصل وتعميقها مع العالمين العربي والإسلامي. ومن ثم فإن هذه الورقة تحاول الإجابة على التساؤلات التالية:- ما تطورات الموقف التركي من القضية الفلسطينية؟- ما محددات الدور التركي الحالي- الرسمي والأهلي - من القضية الفلسطينية؟- ما هي انعكاسات الدور التركي على أطراف القضية وعلى علاقة تركيا بها وبالأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة؟ منهج البحث:جمع الباحث بين المنهجين التاريخي والتحليلي بما يخدم أهداف البحث الذي ينطلق من التاريخ ثم يحلل الواقع ليصل إلى استشراف المستقبل.   تقسيم البحث:ينقسم البحث إلى ثلاثة فصول وخاتمة:-        الفصل الأول: معالم الدور التركي الحالي في ضوء الخبرة التاريخية ومستجدات الوضع المحلي والإقليمي والدولي. -        الفصل الثاني: مستقبل الدور التركي وانعكاساته على علاقة تركيا بأطراف القضية. -        الفصل الثالث: دور تركي متزايد في مصلحة من؟-        خاتمة. أولا: معالم الدور التركي الحالي في ضوء الخبرة التاريخية ومستجدات الوضع المحلي والإقليمي والدولي:يسعى الفصل الأول من الدراسة أن يتتبع الموقف التركي منذ بدايات القضية الفلسطينية وخاصة مع إعلان دولة إسرائيل عام 1948 ثم الاعتراف التركي بهذا الكيان حتى الآن، مرورا بالأحداث المحورية فى تاريخ القضية، ومن ثم معرفة الجديد في الموقف التركي مع حكومة العدالة والتنمية.1- الخلفية التاريخية للدور التركي من القضية الفلسطينية ارتبطت تركيا بالقضية الفلسطينية منذ وقت بعيد؛ حيث كانت فلسطين جزءا من الدولة العثمانية حتى الاحتلال البريطاني لها عام 1922. كما ترتبط تركيا بالقضية الفلسطينية في إطار الارتباط الإسلامي العام بالقضية وهو الأمر الذي استمر حتى الآن. فخلال فترة الدولة العثمانية (1299- 1924م) تطور موقف الدولة من القضية حسب قوتها وضعفها، فعندما بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة وسمحت بالامتيازات الأجنبية في إقليمها تحت ضغوط من الدول الكبرى "استطاع رجل الأعمال اليهودي الإنجليزي موشيه مونتيفيوري  أن يحصل على ضمانات من الدولة العثمانية بالحماية والامتيازات، حيث أنشأ المستعمرات بدءا من عام 1839-1840، حيث تضاعف عدد اليهود من 1500  سنة 1837 إلى 10000 سنة 1840 ثم 15000 سنة 1860 ثم إلى 22000 مستعمر يهودي عام 1881 يتركز غالبيتهم في القدس، حيث حصل موشيه مونتيفوري على فرمان عثماني عام 1859 بشراء أرض خارج أسوار القدس أقام عليها مستشفى ومبان لليهود وتحولت إلى أول مستعمرة لليهود باسم "يمين موشييه"(1) وعندما تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة (1876 – 1909 م) وأراد تقوية الدولة وأطلق فكرة الجامعة الإسلامية نجح في التصدي للمشروع الصهيوني في فلسطين وتعطيله خلال فترة حكمه. ففي عام 1901 حاول تيودور هيرتزل -مؤسس المشروع الصهيوني- كسب موافقة الخليفة عبد الحميد الثاني على توطين اليهود في فلسطين، إلا أن السلطان العثماني رفض ورد قائلا: "لن يستطيع رئيس الصهاينة "هرتزل" أن يقنعني بأفكاره... لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين، بل يريدون أموراً مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين... إنني أدرك أطماعهم جيداً، ولكن اليهود سطحيون في ظنهم أني سأقبل بمحاولاتهم". وأرسل السلطان عد الحميد إلى "هرتزل" قائلاً له: "لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأرض المقدسة؛ لأنها ليست ملكي".(2) وبعد تولي مصطفى كمال أتاتورك الحكم في تركيا ثم إلغاء نظام الخلافة الإسلامية (1924 م)  أرسى أتاتورك مبدأ (السلام في الداخل والسلام في الخارج peace at home and peace in the world) حيث استمرت العلاقة بالقضية الفلسطينية وإن كان في إطار أكثر انعزالية في ضوء توجهات الفترة الأتاتوركية (1923-1938) إجمالا التي أطلق عليها (مبدأ العزلة الكمالية) حيث ركز بصورة أكبر على سياساته لتغيير تركيا من الداخل. مرت المواقف التركية من القضية الفلسطينية بمراحل عدة لكن يمكن إجمالا وضع المحددات التي حكمت الموقف التركي من القضية الفلسطينية وهي:1-  مدى الاقتراب التركي من الغرب واعتبار موقفها المؤيد لإسرائيل أحد بواباتها لذلك التقارب: حيث اعترفت تركيا بدولة إسرائيل عام 1949 وكانت تركيا أول دولة ذات غالبية مسلمة تعترف بإسرائيل، ثم استقبلت إلياهو ساسون كأول وزير مفوض لبلاده في تركيا، وتم تبادل السفراء بينهما عام 1952، سبق ذلك توقيع اتفاقيات أمنية بين البلدين عام 1951، ووقعت الدولتان إضافة إلى إثيوبيا معاهدة حزام المحيط في أغسطس عام 1958، وكان مقابل ذلك من الجانب الغربي انضمام تركيا لحلف شمال الأطلنطي-الناتو- عام 1952. والعلاقة مع الغرب في شقيه الأوروبي والأمريكي بعيدا عن تفاصيلها -التي يمكن الاختلاف بين مكونات النظام حولها - مطلب ملح لدى الجميع في تركيا سواء المؤسسة العسكرية أو الشعب التركي الذي يرى في عضوية الاتحاد الأوروبي فرصة للانطلاق ورفع المستوى الاقتصادي. 2-  مدى توافق هذه العلاقة مع الأمن القومي التركي والقضايا الجوهرية التركية: مثل قضايا الأرمن والأكراد وقبرص وسوريا وهي أيضا قضايا لا يوجد خلاف حول كلياتها مع وجود اختلافات فى الرؤى حول تفاصيلها. فعندما تميل إسرائيل للموقف التركي يكون التعاون وهو ما حدث عام 1951 عندما وقّعت الدولتان اتفاقا أمنيا مقابل تزويد إسرائيل لتركيا بمعلومات أمنية عن المنظمات الكردية والأرمينية والنشاط اليوناني فى البحر المتوسط. وعندما مالت إسرائيل لليونان ضد تركيا كما حدث عامي 1963- 1964 إبان الأزمة القبرصية  شهدت العلاقة بين الدولتين بعضا من التوتر حيث رفضت تركيا العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والضفة وغزة عام 1967 ودعت إلى احترام قراري مجلس الأمن رقم 242 و338 الداعيين إلى العودة لحدود ما قبل 5 يونيو 1967 ورفضت القرار الإسرائيلي بضم القدس إداريا بعد احتلالها عام 1967، لكنها لم تصل إلى حد القطيعة الدبلوماسية، حيث رفضت قرار منظمة المؤتمر الإسلامي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بعد حريق المسجد الأقصى عام 1969 ولكنها رفضت في الوقت ذاته أن تكون معبرا للطائرات الأمريكية لإمداد إسرائيل بالأسلحة أثناء حرب تشرين –أكتوبر 1973.3-  طبيعة النظام السياسي القائم في تركيا والعلاقة بين الديني والعلماني ومدى اقترابه أو ابتعاده عن الكمالية السياسية، وكذا مدى هيمنة العسكر على مجريات النظام: مع الأخذ فى الاعتبار أن هناك حدودا عليا ودنيا يعمل في إطارها النظام القائم أيا كان توجهه ولكن في النهاية طبيعته تجعله أكثر اقترابا من أي من تلك الحدود وبما لا يصطدم بالبعدين الأولين وهما العلاقة بالغرب والمصالح القومية التركية العليا. فالعلمانية المتشددة التي تحميها المؤسسة العسكرية وبعض القوى الفاعلة داخل النظام التركي –طبقا لدستور عام 1982-تجعل الاقتراب منها أو محاولة تخفيف حدتها أمر بالغ الصعوبة لأي قوة سياسية أو اجتماعية تركية أيا كان توجهها. والدين –خاصة الإسلامي الذي يدين به غالبية الشعب التركي- هو مكون أساسي أيضا لدى الشعب التركي ورغم سياسات النظام التركي المتشددة تجاه الدين منذ عهد أتاتورك، إلا أن الدين لا زال له دوره وقبوله وتقديسه وتعظيم دوره لدى فئات كثيرة في الشعب التركي؛ لذا يصبح لزاما على أي نظام سياسي في سياساته الداخلية والخارجية أن يوازن قدر الإمكان بين تطلعات الشعب الدينية وقيود المؤسسات الأمنية العلمانية. ففي حالة النظام العلماني الشديد أو سيطرة العسكر تكون العلاقة أقوى مع إسرائيل لكنها لا تصل إلى حد التجاهل التام للحقوق الفلسطينية –إلا في فترات محدودة جدا- كما أن ابتعاد النظام عن العلمانية المفرطة أو اقترابه الشديد من الشكل المدني، لا يصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل أو تجميد التعاون فى بعض المجالات الاستراتيجية. 4-  طبيعة النظام الدولي، فالدور التركي يختلف في مرحلة الحرب الباردة عن ذلك الدور بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وهيمنة القطب الأمريكي الأوحد على العالم، ثم حالة التراخي البادية في سيطرة هذا القطب تأثرا بالحرب في أفغانستان والعراق.ومن ثم فإن البعض راهن على ضعف الأهمية الاستراتيجية لتركيا في الرؤية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، لكن تركيا استطاعت أن تثبت تزايد أهميتها لا تناقصها من خلال قراءتها الجيدة لمعطيات الوضع الدولي والتغيرات التي طرأت على البيئة الدولية المحيطة خاصة بعد طرح إدارة بوش الابن عام 2004 لمبادرة الشرق الأوسط الكبير، والتي رأى فيها بوش تركيا نموذجا يمكن أن تحتذي به دول العالم الإسلامي في التوفيق بين الإسلام وقيم الغرب. -الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي (1948-2002) يرى بعض الباحثين (3) أن هناك "ثمة منظورات واقترابات عديدة يمكن استخدامها لتحليل السلوك التركي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، أهمها منظور الحرب الباردة، واقتراب السلوك التصويتي، ومنظور الازدواجية، واستخدام مفهوم التوازن في السلوك الخارجي تجاه طرفي الصراع أو استخدام مفهوم التغير في السياسة الخارجية".لقد مال البعض إلى منظور الحرب الباردة لتفسير الموقف التركي من الصراع العربي الإسرائيلي حيث كانت تركيا محسوبة على المعسكر الغربي بينما القوة القائدة فى النظام العربي، وإن كانت رسميا اتبعت نهج عدم الانحياز إلا أنها كانت أقرب إلى المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، ومن ثم فإن أي موقف تركي من هذا الصراع سيكون طبقا للمعسكر الذي تنتمي اليه وهو هنا معسكر مؤيد للسياسة الإسرائيلية.بينما الواقع طبقا لاقتراب السلوك التصويتي يؤكد أن ثمة توزانا في السلوك التصويتي لتركيا فى المحافل الدولية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فى نفس الفترة تقريبا وهو هنا ما يفسره البعض باقتراب الازدواجية التركية بين الولاء للغرب والانتماء للشرق أو الإسلام.إجمالا وبقراءة للمواقف التركية من مجمل قضايا الصراع العربي الصهيوني، فإن الناظر لأول وهلة، يجد أن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل عام 1949، وكانت الأسبق أيضا في إقامة علاقات دبلوماسية معها، لكن بقراءة معمقة لمجمل المواقف بعد ذلك سيجد هناك توزانا ما – قد تميل كفته أحيانا لصالح إسرائيل– في الموقف من القضايا الكلية للصراع.فقد اعترفت تركيا بإسرائيل عام 1949، لكنها رفضت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ثم رفضت نتائج حرب يونيو 1967، وأيدت الموقف العربي رغم الخلافات التي كانت مع العرب حينها، وكانت أشد رفضا لضم إسرائيل للقدس -مدنيا- عام 1967 أو الاعتراف بها كعاصمة موحدة عام1980، كما رفضت أن تكون جسرا للمساعدات العسكرية الأمريكية لمساعدة إسرائيل في حرب أكتوبر 1973.-الموقف من عملية التسوية:أعلنت تركيا تأييدها لكل المبادرات السلمية لتسوية الصراع العربي الصهيوني إجمالا أو على أحد مساراته القُطرية مع إسرائيل. قد أيدت تركيا مبادرة روجرز (أغسطس 1970) و قرار وقف إطلاق النار خلال حرب أكتوبر 1973، ورحبت بدعوات تنظيم مؤتمر دولي للسلام في جنيف بحضور أطراف النزاع وبرعاية أمريكية سوفييتية، وبعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 أكدت على موقفها الداعي للانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في 5 يونيو 1967.  واعترفت تركيا بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1975 كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ثم سمحت للمنظمة بافتتاح مكتب لها فى تركيا عام 1979، ثم اعترفت بإعلان الدولة الفلسطينية عام 1988. وبعد حرب الخليج الثانية -1991- أعرب الرئيس التركي تورجوت أوزال عن رغبة بلاده أن ينعقد المؤتمر الدولي للسلام على الأراضي التركية، وبعد انطلاق المؤتمر بمدريد في العام ذاته رأت تركيا في ذلك فرصة لتطوير وازدهار علاقتها بإسرائيل، حيث لم يعد لدى العرب الذين انتقدوها سابقا لإقامة علاقات مع إسرائيل حجة الآن؛ فالجميع جلس مع إسرائيل. وبعضهم أقام علاقات دبلوماسية، بل إن منظمة التحرير ذاتها دخلت فى مفاوضات أوسلو وغزة وأريحا، وعادت إلى الضفة وغزة فـ" تحقيق السلام فى الشرق الأوسط ينهى هذه الازدواجية فى المواقف التركية، ويريح صانعي السياسة الخارجية التركية من مشقة إجراء حسابات دقيقة ومطولة لكل خطوة بخطوتها إزاء الشرق الأوسط."(4) ومن ثم شهدت فترة التسعينيات من القرن الـ20 الميلادي أفضل فترات العلاقات التركية الإسرائيلية التي وصلت إلى قمتها بتوقيع الطرفين لاتفاقية التعاون الاستراتيجي الأمنية بين الطرفين عام1996، وهي التي أثارت انتقادات عربية شديدة خاصة من مصر. الموقف من المقاومة الفلسطينية:حكم الموقف التركي من المقاومة الفلسطينية في عهودها المختلفة عدة عوامل منها:1-  الموقف التركي المعلن فى إطار المحددات المعلنة من قبل، وهي الحفاظ على العلاقة مع الغرب وحماية الأمن القومي التركي، ومن ثم فإن نجاح إسرائيل في الربط بين المقاومة الفلسطينية وعمليات حزب العمال الكردستاني المسلحة على الأراضي التركية جذب تأييدا تركيا لإسرائيل على حساب المقاومة، خاصة إذا نجحت إسرائيل أن تثبت وجود علاقة ما بين فصائل المقاومة والحزب، مثلما حدث فى الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 "حيث أكدت لتركيا قيام منظمة التحرير بتدريب عناصر حزب العمال والجيش السري الأرمني في لبنان "(5)2-  الضغط الشعبي الداخلي لتأييد الحق الفلسطيني فى المقاومة وتحرير أرضه بوصفه حقا مشروعا كفلته المواثيق والشرائع الدولية، وكذا في إطار الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع العالم العربي خاصة فى فترة الطفرة النفطية خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين الميلادي، والذي غلب على السياسة التركية فيه أيضا الحياد، وإن كان يميل الى الجانب الفلسطيني على الأقل من ناحية التصريحات المعلنة وليس على أرض الواقع.فقد اعترفت تركيا بمنظمة التحرير عام 1975 وسمحت بافتتاح مكتب لها عام 1979 ووصفت الخارجية التركية رد الفعل الإسرائيلي على الانتفاضة الأولى ( ديسمبر 1987 ) بأنه "انتهاك للحقوق الإنسانية للفلسطينيين، وطالبتها بوقف هذا السلوك" بينما على المستوى الفعلي لم تتخذ قرارات على أرض الواقع ضد هذا التصعيد الإسرائيلي (6).ووفقا للبعض فإن تركيا سمحت "لبعض الوكالات الخاصة فى تركيا فى الربع الأخير من عام 1988 إبان الانتفاضة الفلسطينية فى الأراضي المحتلة في مجال إرسال عدد من العمال الأتراك للعمل فى إسرائيل بأجور مجزية لتقليل اعتمادها على العمالة الفلسطينية وقدر هذا العدد فى 25/1/1989 بحوالى 3 آلاف عامل تركي" (7) 2- معالم الموقف الحالي في ظل حكومة العدالة والتنمية الأولى والثانية (2002-2010) جرت الانتخابات العامة يوم الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 وحصل حزب العدالة والتنمية على 34% من الأصوات وأحرز 365 مقعدا من أصل 550، وأحرز حزب الشعب الجمهوري على 176 مقعدا و19% من الأًصوات. وفاز ببقية المقاعد مرشحون مستقلون. وفي الانتخابات المحلية التي جرت يوم 28 مارس/ آذار 2004 أحرز الحزب 42% من الأصوات في جميع أنحاء البلاد. وصل العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فى تركيا في ظل وضع سياسي داخلي ودولي فرض عليه قيودا على حركته، و دفعه لاتباع بعض التكتيكات السياسية لتحقيق أهدافه والوصول لها. ويمكن أن نرسم البيئة التي وصل فيها الحزب للحكم في عدد من الجوانب:أ‌-       وضْع العلاقات التركية الإسرائيلية قبيل وصول العدالة للسلطة وصل العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا وكانت العلاقات الإسرائيلية التركية في قمتها نتيجة لتطورات عدة فى عقد التسعينيات من القرن العشرين الميلادي، حيث زارت رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر إسرائيل عام 1994 في أول زيارة من نوعها لمسؤول تركي بهذا المستوى منذ الاعتراف التركي بإسرائيل. وبعدها بعامين زار الرئيس التركي سليمان ديميريل إسرائيل أيضا وتوقيع الاتفاق الأمني العسكري الاستراتيجي (فبراير 1996) وشهدت العلاقات الاقتصادية تطورا ملحوظا أيضا خلال نفس الفترة. "تم تدعيم هذا التعاون باتفاقات لاحقة مثل (اتفاق 28/8/1996 بشأن مشروع تحديث طائرات الفانتوم التركي، واتفاق 1/12/1996 بشأن المشروع ذاته وتنظيم تدريبات ومناورات مشتركة. وكذا اتفاق 8/4/1997 بشأن تقدير ومخاطر إيران وسوريا على البلدين. وتم التوصل إلى 14 اتفاقا ومشروعا للتعاون العسكري بين البلدين"(8) وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين  إلى 1500 مليون دولار فى مايو 2001 علما بأن هذا المبلغ لا يشمل ثمن صفقات الأسلحة بين الجانبين." ب‌-   بيئة النظام السياسي التركي تولى العدالة والتنمية الحكم في تركيا في ظل بيئة سياسية معينة، وهي وجود مؤسسات رسمية داخل النظام مثل: البرلمان والسلطة التنفيذية (رئيس الوزراء ورئيس الدولة) والسلطة القضائية، إضافة إلى إقرار الدستور لصلاحيات معينة لمجلس الأمن القومي الذي تسيطر عليه المؤسسة العسكرية، والتي تعتبر في نفس الوقت حامي للنظام العلماني وللعلاقات التركية مع الغرب. مع الأخذ في الاعتبار أن الدور السياسي للعسكريين –الممنوح لهم وفقا للدستور- هو أحد معوقات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل تحجيم دورهم من الناحية الدستورية يزيد من فرص الانضمام للاتحاد في ظل شروطه المعلنة. كما تولى العدالة والتنمية في ظل تدهور شعبية الأحزاب القائمة، سواء التي انفردت بالحكم أو الحكومات الائتلافية التي سبقت الانتخابات البرلمانية المبكرة في نوفمبر 2002 حيث تدهور الاقتصاد التركي، وزاد معدل الفساد، وفشلت الحكومة الائتلافية في مواجهة الأزمة الاقتصادية؛ مما دفعها للاستقالة، والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة. إضافة إلى ما سبق، جاءت انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000 التي تعاطف معها الشعب التركي مقابل موقف رافض و متصاعد من الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة، زاد من ذلك الحرب الأمريكية على العراق، ثم احتلاله أبريل 2003 وبروز الدور الإسرائيلي الداعم للحرب وانكشاف المزيد من الحقائق حول الدور الإسرائيلي شمال العراق والعلاقة مع الأكراد. جـ- الخلفيات الأيديولوجية لحزب العدالة والتنميةيصر حزب العدالة والتنمية دائما على وصف نفسه بالحزب الديمقراطي المحافظ، ويرفض وصف نفسه بالإسلامي، ومن ثم فهو يرى أن موقفه من العديد من القضايا ومنها القضية الفلسطينية نابع من عوامل ثقافية وتاريخية، وتعبر عن موقف الشعب التركي الذي انتخب الحزب. لكن الأمر المؤكد، أن مؤسسي حزب العدالة والتنمية الرئيسيين، هم من رجالات حزب الفضيلة الإسلامي الذين خرجوا منه، وقاموا بتأسيس حزب جديد بمنطلقات جديدة وباستجابة أكبر لمطالب الشعب التركي بناء على دراسات استقصائية قام بها الحزب ليكون خطابه أقرب لرجل الشارع التركي وتطلعاته. وكانت الفكرة الأساسية لحزب العدالة أنه "يجب التخلي عن الخطاب الديني الذي التزمه حزب الفضيلة بقيادة أربكان، وأن يستخدم خطابا يتفق مع الواقع التركي والعالمي أيضا. لذلك تبنى "مسؤولو حزب العدالة والتنمية اقترابا يسعى للتوفيق بين قيم الغرب والقيم الإسلامية. ربما كان التغيير أكبر في مستوى الأدوات والشركاء الإقليميين المساعدين وليس في التوجه العام للاستراتيجية التركية الخارجية"(9) وبذلك استطاع الحزب أن يستمر على "التقاليد العثمانية  ذات الطابع الإمبراطوري الذي يقوم علي التوفيق والتعايش بين خيارات متعددة والوصول لحلول وسط، وهو العامل الذي أدى بـ "الأتاتوركية" ذات الطابع الاستئصالي إلى عدم النجاح، كما أدى بـ "الأربكانية" ذات الطابع الإحيائي الذي يحمل نزعة جذرية إلى التراجع، بينما مهد الطريق أمام  "الأردوغانية" في صيغتها الديمقراطية المحافظة المتواصلة مع الطابع العثماني (عثمانية جديدة) للوصول إلى السلطة." (10) وتكون الحزب الذي يضم حوالي 3 ملايين عضو وأكثر من 80 فرعا في جميع أنحاء الدولة التركية خليطا من اتجاهات عدة، أهمها الإسلاميون ورجال الأعمال والقوميون الأتراك، تمثل كلها روافد هامة لمواقف الحزب السياسية والاقتصادية. - معالم الموقف التركي الحالي من القضية الفلسطينية:حدد حزب العدالة والتنمية استراتيجيته الخارجية من منظر الحزب ووزير الخارجية الحالى "أحمد داود أوغلو" الذي استطاع صهر كل المحددات المذكورة سلفا والخروج بنظرية جديدة للسياسة الخارجية التركية تقوم على مبدأ "صفر مشاكل" الذي أعلنه في كتابه "العمق الاستراتيجي.. مكانة تركيا الدولية".يقول أوغلو في مقال بمجلة فورين بوليسي الأمركية عدد يونيو 2010 "رؤيتنا للسياسة الخارجية التركية تعتمد على ثلاثة محاور، الأول يتعلق بدولتنا، وهو قائم على التوازن بين الأمن والحرية من أجل أن تأخذ تركيا موقعها بين أقوى دول العالم. المحور الثاني يتعلق بالإقليم من حولنا، ويقوم على التأثير القوي في الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، نحن لا نمثل 75 مليون تركي فقط، بل نحن معنيون بكل مكان يتواجد فيه الأتراك أو عاشوا فيه سابقا. المحور الثالث وهو المحور العالمي القائم على أن يكون لتركيا دور وكلمة في جميع القضايا العالمية من تغيير المناخ إلى القضايا السياسية المختلفة من تشيلي وحتى الفليبين" (11) "إن تركيا حسب رؤية أوغلو ليست في موقع التصادم أو حتى التناقض لا مع الولايات المتحدة ولا مع إسرائيل، وهي تبحث عن أفضل الطرق والأدوار لإحلال السلام في بيئتها الإقليمية بما في ذلك السلام بين العرب وإسرائيل" (12) ويرى الدكتور إبراهيم البيومي غانم أستاذ العلوم السياسية وخبير الشأن التركي أن "للدكتور أحمد داود ثلاث نظريات أساسية تعبر عن رؤيته للعلاقات الدولية تعبيرا أصيلا في نسبته إلى أفكاره، وإدراكه لذاته الحضارية/الإسلامية، بحسب مصطلحاته هو في كتاباته، وهي: نظرية التحول الحضاري، ونظرية العمق الاستراتيجي، ونظرية العثمانية الجديدة" حيث يبرهن أوغلو في الأولى –التحول الحضاري- على أن ما يجري في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ليس تعبيرا عن انتصار الرأسمالية/الليبرالية، ولا عن نهاية التاريخ، وإنما هو تعبير عن تحول حضاري واسع المدى سيصبح العالم بعده عالم متعدد الأقطاب. وتتمثل الثانية -العمق الاستراتيجي- في إخراج تركيا من بلد "طرف"، أو "هامش" يقتصر دورها في كونها عضوا في محاور وعداوات، إلى بلد "مركز" على مقربة واحدة من الجميع، وفي الوقت نفسه إلى بلد ذي دور فاعل ومبادر في كل القضايا الإقليمية والدولية. أما الثالثة -العثمانية الجديدة- فقوامها ثلاثة مرتكزات، أولها: أن تتصالح تركيا مع ذاتها الحضارية الإسلامية بسلام، وتعتز بماضيها "العثماني" متعدد الثقافات والأعراق، وتوسع الحريات في الداخل، وتحفظ الأمن في الخارج، وثانيها: استبطان حس العظمة والكبرياء العثماني والثقة بالنفس عند التصرف في السياسة الخارجية، والثالث: الاستمرار في الانفتاح على الغرب، مع إقامة علاقات متوازنة مع الشرق الإسلامي.(13) ويمكن أن نميز موقف العدالة والتنمية من القضية الفلسطينية خلال مرحلتين متداخلتين: الأولى منذ وصوله للحكم في نوفمبر 2002 حتى الهجوم الإسرائيلي على غزة ديسمبر2008: حيث استمر الموقف التركي في عهد العدالة والتنمية المؤيد لاعلان الدولة الفلسطينية عام 1988 التي اعترفت بها تركيا بعد الإعلان مباشرة، ولم يطرأ أي تغير على هذا الموقف التركي المعلن. وفي قضية القدس استمر موقف تركيا الرافض لاحتلال إسرائيل للجانب الشرقي منها. الثانية:الهجوم الإسرائيلي على غزة ديسمبر 2008 حتى نوفمبر 2010:حيث بدأ الموقف التركي برفض الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، ثم استقبال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية -حماس-خالد مشعل بعد فوز الحركة بالانتخابات البرلمانية عام 2006. وقال عبد الله غول - بصفته الحزبية لا الرسمية -بعد استقباله لمشعل إن "ذلك الاستقبال من منطلق أن تركيا تسعى لدور أكبر فى منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يمكنها أن تقف موقف المتفرج، مشددا على أن تركيا مهتمة بالمشكلة الفلسطينية، وأنها ستواصل العمل على وقف العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين. (14) ووفقا لتصريحات غول، فإن موقف حكومة حزب العدالة والتنمية في التعامل مع  الحصار المفروض على قطاع غزة انطلق من خلال السعي للعب دور إقليمي فاعل، إضافة إلى تعاطف الشعب التركي مع أهالي غزة، والقيام بمبادرات شعبية لفك الحصار. ثم تصاعدت حدة الموقف التركي بعد أحداث ثلاثة هامة وهي: 1-    العدوان الصهيوني على قطاع غزة ديسمبر 2008-يناير 2009  حيث وصف أردوغان الاعتداء بعبارات مثل  "إن ما يحدث في غزة من قبل إسرائيل عدوان سافر"، "وإنَّ من لم يدينوا الهجوم على غزة مزدوجو معايير"(15) بينما نقلت صحيفة حريت التركية عن وزير الخارجية التركي حينها-علي باباجان –قوله لوزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبني ليفني: أبوابنا مفتوحة، لكن عليك أن تتحدثي عن شروط وقف اطلاق النار إذا أردت المجيء إلى تركيا. (16) 2-  المناظرة بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في مؤتمر دافوس بعيد انتهاء العدوان في 29-1-2009 في الجلسة المخصصة لمناقشة تداعيات الحرب على غزة، وقد عقدت على هامش جلسات المنتدى الاقتصادي في "دافوس"، حيث قال أردوغان لبيريز "أشعر بالأسف أن يصفق الناس لما تقوله، لأن عددا كبيرا من الناس قد قتلوا، وأعتقد أنه من الخطأ وغير الإنساني أن نصفق لعملية أسفرت عن مثل هذه النتائج"، ثم انسحب من الجلسة اعتراضا على عدم إعطائه وقتا كافيا ومساويا لبيريز.3-وأخيرا الاعتداء الإسرائيلي العسكري على سفن كسر الحصار التركية المتجهة لغزة (31 مايو 2010) واستشهاد تسعة أتراك بدم بارد على السفينة مرمرة، وهي العملية التي أشاد بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. حيث وصف أردوغان الهجوم في خطاب له أمام البرلمان ما حدث قائلا "ضمير الإنسانية تلقى  واحدا من أشد الجروح على مر العصور"،وأنه "يستحق كافة أشكال اللعن" و"سقوطا من الناحية الإنسانية وتهورا حقيرا" و"إرهاب دولة" محذرا إسرائيل من ألا تحاول "اختبار صبر تركيا أو مواكبتها. وبالقدر الذي تعتبر صداقة تركيا غالية فإن معاداتها قاسية بالقدر نفسه." وشدد أردوغان على أن تركيا لن تدير ظهرا للشعب الفلسطيني أو لقطاع غزة."(17) وفي رد فعل سريع على حادث الاعتداء، قامت الحكومة التركية بعدد من الإجراءات، منها  استدعاء السفير التركي لدى تل أبيب، وإلغاء ثلاث مناورات عسكرية مبرمجة مشتركة مع إسرائيل، ودعوة مجلس الأمن لاجتماع طارىء لمناقشة الهجوم، وإلغاء المباريات التي كان من المفروض أن يشترك فيها منتخب تركيا للشباب لكرة القدم والموجود في إسرائيل حينها، و دعوة مجلس حلف الناتو إلى اجتماع طارئ. كما قاطعت تركيا مؤتمرا لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حول السياحة الذي نظمته إسرائيل خلال شهر أكتوبر 2010؛ احتجاجًا على عقده في المدينة المقدسة. (18) وقد وضعت تركيا شروطا لعودة العلاقات إلى طبيعتها مع إسرائيل، منها الاعتذار الرسمي عن حادثة الهجوم، ودفع التعويضات، والموافقة على تشكيل لجنة تحقيق دولية. ثانيا: محددات موقف العدالة والتنمية من القضية الفلسطينية ومستقبل الدور التركي:هناك عدد من المحددات ستؤثر على الدور التركي الخارجي خاصة فيما يتعلق بدورها في الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهذه المحددات يمكن أن نلخصها في محددات أربعة، ستؤثر بشكل أو بآخر في طبيعة الدور ومستقبله وحدوده وأبعاده.أولا: الموقف الداخلي التركي من هذا الدور:يمكن أن يتم تقسيم الداخل التركي إلى دواخل فرعية، هي الشعب التركي بتوجهاته المختلفة إسلامية وقومية وعلمانية، ورجال الأعمال، والمؤسسة العسكرية وحلفاؤها.وكل قوة من هذه القوى لها موقف أو انطباع عن ذلك الدور الذي تقوم به حكومة العدالة والتنمية.فالشارع التركي يمكن أن يتم تقسيمه لغالبية مؤيدة لسياسات العدالة والتنمية تجاه القضية الفلسطينية، يصل موقف البعض من هذه الغالبية إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا من موقف الحكومة ذاتها، سواء بناء على مواقف إسلامية أو قومية تركية.وهناك أقلية سياسية كبيرة ذات توجه علماني، ترى في توجهات العدالة والتنمية التي تسير باتجاه تأييد حقوق الشعب الفلسطيني في أنها مواقف تناقض مبادئ العلمانية التركية والحياد في الصراع العربي الإسرائيلي، بل إن البعض يجتر الماضي مذكرا بموقف العرب في ثورة الشريف حسين من الدولة التركية وانحيازهم لقوات الحلفاء للاستقلال عن الخلافة العثمانية.إجمالا يمكن أن نعتبر الشارع التركي مؤيدا لسياسات العدالة والتنمية وضاغطا عليها لمزيد من التأييد للفلسطينيين، خاصة في ظل التطورات المتسارعة المتعلقة بالقضية والعدوان الإسرائيلي المستمر أو الانكشافات الأخيرة المتعلقة بالدور الإسرائيلي في دعم الأكراد شمال العراق، واتهامها بدور في المؤامرة التى كشفتها الحكومة التركية لبعض العسكريين الحاليين والسابقين للانقلاب على الحكومة الحالية، والقيام بعمليات اغتيال في صفوفها، وهو ما عرف بقضية "ارجنكون" حيث أكدت "صحيفة «تقويم» التابعة لمجموعة «صباح» المقربة من الحزب الحاكم، أن الشبكة استخدمت نظام أجهزة «ماجلان أس 313» الإسرائيلي الصنع، والذي أحضرته من إسرائيل عبر قبرص الشمالية"(1). القوة الثانية هي القوى العلمانية في تركيا وهي بداخلها إما قوى متشددة كحزب الشعب أو قوى علمانية غير متشددة لكنها تريد استمرار الوجه العلماني لتركيا.وفي دولة مثل تركيا كان انقلابها الأساس فيه فرض العلمانية في أقصى درجات تشددها وجعلها ثقافة مجتمع، يصبح وجود قوى علمانية أمرا مؤكدا وطبيعيا خاصة إذا كان الدستور ينص في مادته الأولى على أن تركيا دولة علمانية، كما أن سلطتي القضاء والجيش يدافعان عن هذا الخيار.لذلك ينظر هؤلاء-العلمانيون المتشددون- لأي توجه تركي تجاه القضية الفلسطينية على أنه توجه إسلامي ضد علمانية الدولة، وليس توجها سياسيا يصب في خانة المصالح القومية ونمو الدور التركي الخارجي على المستوى الإقليمي والدولي.وتستغل هذه الأطراف التوجه الإسلامي المقاوم لحركة المقاومة الإسلامية حماس "لاتهام أردوغان بالانحياز إلى جانبها، وهو ما يتناقض مع أسـس ومبادئ الجمهورية العلمانية ومصالحها الاستراتيجية المقصود بها العلاقة مع أمريكا وإسرائيل ومنظمات اللوبي اليهودي"(2) أما القوة الثالثة فهي المؤسسة العسكرية والتي تمثل حامي الدستور وعلمانية الدولة والمدافع الرئيس عن علاقات تركيا بإسرائيل والمرتبط معها باتفاقيات عسكرية وأمنية واستخباراتية متعددة يأتي على رأسها اتفاق التعاون الأمني الاستراتيجي عام 1996 ودور الجيش محصن وفقا لدستور عام 1982 الذي وضعه قادة انقلاب كنعان إفرين عام 1980 والذي جعل للمؤسسة العسكرية دورا متعاظما في الشأن السياسي التركي، وجعل قرارات مجلس الأمن القومي الذي يسيطر عليه العسكريون-حتى تعديلات الدستور 2001 ثم 2009 –ملزمة للحكومة وليست على سبيل الاسترشاد.القوة الرابعة وهم رجال الأعمال، وهؤلاء لهم دور رئيس في السياسة الخارجية التركية ويشكلون نسبة كبيرة من مؤيدي العدالة والتنمية في سياساته الداخلية والخارجية.ثانيا -الموقف الأمريكي والأوروبيتعد تركيا بالأساس حليف استراتيجي للغرب والولايات المتحدة، وهي الدولة الإسلامية الوحيدة العضو في حلف شمال الأطلنطي –الناتو- وكانت محورا مهما في المعسكرالغربي إبان الحرب الباردة وقبل سقوط الاتحاد السوفييتي باعتبارها من أقرب دول الحلف جغرافيا للاتحاد السوفييتي السابق، ويوجد في تركيا واحدة من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية بالخارج، وهي قاعدة انجرليك الجوية جنوب تركيا، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي استمر الدور التركي خاصة في حرب الخليج الثانية –عام 1991-أو ما يعرف بحرب تحرير الكويت ثم شاركت تركيا أيضا في الحرب الأمريكية على أفغانستان عام 2001 بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة.لكن بعد ذلك حدثت تغيرات هامة أثرت في الموقف التركي من العلاقات مع الولايات المتحدة هي:-رؤية الإدارة الأمريكية أو طرحها لما يسمى الشرق الأوسط الكبير، والتي جعلت من تركيا نموذجا يمكن الاحتذاء به فى علاقة العالم الإسلامي بالغرب، حيث تجمع بين الإسلام وقيم العلمانية الغربية الحديثة، وبما يحسن صورة الولايات المتحدة فى المنطقة بعد غزو أفغانستان والعراق  و"خلق توازن استراتيجي بين تركيا وإيران في الشرق الأوسط، وذلك في ظل حالة الفراغ التي خلّفها سقوط نظام صدام حسين".(3)ويرى البعض أن الاستراتيجية الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما هي أنه يريد من تركيا أن تكون حصان طروادة لسياساته فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتي تقوم على " شقين: الخطاب السياسي الودي، والمضمون السياسي القائم على استمرارية الهيمنة، وتحويلها إلى "هيمنة ناعمة" بعد إخفاق عسكرتها"(4)-الحرب الأمريكية واحتلال العراق عام 2003 في ظل رفض تركي للاشتراك في الحرب أو استخدام قاعدة انجرليك للهجوم على العراق، والخشية من تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق، والدور المتصاعد للأكراد وخشية استقلالهم بدولة كردية شمال العراق والكشف عن الدور الإسرائيلي في شمال العراق.-وصول العدالة والتنمية للحكم باستراتيجية جديدة لا ترفض التعاون مع الغرب، لكنها ترى طبقا لمهندس السياسة الخارجية الجديدة –أحمد داود أوغلو- أن تركيا دولة مركز لا هامش، وأن العالم سيتحول إلى متعدد الأقطاب وليس أحادي القطبية، ومن ثم فإن السياسة والدور التركي يجب أن يكون وفق هذا التصور.يقول أحد الخبراء السياسيين الأمريكيين في تحليل ذلك أن "النظام الثنائي القطبية في فترة الحرب الباردة لم يعد قائما، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تفترض بأن تركيا سوف تسعى لإقامة تحالف معها وحدها، وترفض التقارب مع غيرها من الدول القوية مثل الصين أو الدول التي تحقق من خلال علاقاتها معها مكاسب اقتصادية واعدة"(5)إذن هناك رؤيتان أمريكيتان للدور التركي:الأول: يرى أن الإدارة الأمريكية لا ترفض الدور التركي في القضية الفلسطينية؛ لأنها تعلم أن هناك سقفا أو خطا أحمر لن تتجاوزه تركيا في علاقتها بالغرب أو إسرائيل. بينما سقف إيران-اللاعب القوي في المنطقة وفي القضية الفلسطينية- في التعامل مع القضية أعلى كثيرا من تركيا. والولايات المتحدة تريد بديلا إسلاميا معتدلا يجذب حماس نحو الاعتدال في مواجهة نفوذ إيراني يهدد أمن إسرائيل.فـ"الولايات المتحدة باتت مدركة للصعوبات التي تواجهها في المنطقة، وترى في تركيا احتياطياً استراتيجيا يمكن الركون إليه ليشكل عامل استقرار وحاجة ملحة في الأزمات المعقدة"(6) الثاني: يرى أن العدالة والتنمية يتبنى الرؤية الإسلامية السياسية بصورة كاملة فطبقا  لـ"سونر چاغاپتاي" مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن "فإن «حزب العدالة والتنمية» يرى كل شيء من خلال عدسات الصراع الحضاري، فلا يمكن أن يكون وسيطاً نزيهاً. وقد أصبح هذا واضحاً عندما أصبح «الحزب» وبسرعة مدافعاً عن الجانب الإسلامي حين سُمح له بإقحام نفسه بين «حماس» والسلطة الفلسطينية أو بين أوروبا وإيران".(7) كما أن "المعلِّقين المحافظين في واشنطن يحلمون بتحالف بين اليونان وإسرائيل وكردستان العراق، لإضعاف تركيا, وفي اجتماع مغلق لأعضاء "هيريتاج فاونديشين" (مؤسسة التفكير "هيريتاج" (التراث) التي تعد من معاقل المحافظين في واشنطن)، سُمع بقوّة تعبير "يجب أن نعاقب تركيا" "(8). -الموقف الإسرائيلي من الدور التركي المتصاعدالموقف الإسرائيلي من الدور التركي أقرب للموقف الأمريكي، فهو يريد دورا تركيا باعتبار العلاقات التاريخية والاستراتيجية مع تركيا وباعتبار أن نظام الحكم فى تركيا أيا كان توجهه لن يغامر بالعلاقات مع إسرائيل؛ لأنه يعلم أنها بوابة قبوله فى الغرب.ولكن مع الإقرار بوجود تفسيرات عدة إسرائيلية لذلك الموقف، بعضها يميل لتفسير التغير في العلاقة بسبب المنحى الأصولي للعدالة والتنمية، والبعض الأخر يتهم الديمقراطية بأنها السبب وراء وصول حزب مثل العدالة والتنمية للحكم فى تركيا، ويرى في الديمقراطية خطرا على إسرائيل إذا ما طبقت فى الدول العربية والإسلامية. ورأي ثالث يفسر ذلك بأنه صراع على المكانة الإقليمية، فتركيا الجديدة "لا تركل إسرائيل ولا تغير ألوانها. ولكنها تريد حليفا لا يحرجها، لا في نظر جمهورها ولا في نظر حلفائها الآخرين"(9) إذن هناك أيضا رأيان إسرائيليان حيال الدور التركي:الأول: يرى أن تركيا لن تضحي بعلاقاتها مع إسرائيل، وأن لاقترابها من الفلسطينيين وابتعادها عن إسرائيل حدودا لن تتعداها. يقول يورى ووردن أول سفير إسرائيلي في تركيا لوكالة فرانس برس – في إطار فهمه لهذه المعادلة التي تحكم الموقف التركي من القضية الفلسطينية بعد فوز العدالة والتنمية بالانتخابات في 3 نوفمبر 2002 - لست متشائما  البتة، وعلى العكس فأنا أعتقد أن العلاقات الجيدة بين إسرائيل وتركيا  ستستمر.  وأضاف ووردون "إذا أرادت تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والإبقاء على علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة، والاثنان يصبان في المصلحة التركية فإن الحكومة الجديدة لا  تستطيع أن تعدل علاقاتها السياسية مع إسرائيل". ويقول الرئيس الإسرائيلي – السابق- موشيه كاتساف – بعد وصول العدالة والتنمية للحكم -بأنه ليس قلقا من صعود حزب العدالة  إلى الحكم في تركيا، لأن المصالح الوطنية للدولتين تقرر دوما أن تبقى العلاقات بينهما جيدة. و يقول الباحثان الإسرائيليان ألون ليفين ويوفال بستان تعقيبا على المواقف التركية: إن "تركيا ليست معنيّة بالدخول في حرب مع إسرائيل، ولكنها أرادت فقط تحقيق بعض نقاط القوّة في المنطقة، وفي الساحة التركية الداخلية، والظهور بمظهر المدافع عن حقوق الفلسطينيين، وإظهار قدرتها على إحراج إسرائيل المرّة تلو المرّة" (10) فالدور التركي سوف يحقق لإسرائيل أهداف جذب حماس وسوريا بعيدا عن إيران وتقديم حليف بديل أكثر اعتدالا وقبولا لدى الغرب وإسرائيل؛ "لهذا يأتي الضغط التركي على إسرائيل منحصراً في الشكليات والجزئيات، أما الأساسيات فلن يكون محلاً لها حتى إشعار آخر أو تغير جذري في المواقف الاستراتيجية التركية."(11) لذلك ورغم الانتقادات التركية اللاذعة لسياسة إسرائيل تجاه غزة وتبعات الهجوم الإسرائيلي  على أسطول الحرية، فإن "التركيبة المعقدة لبنية العلاقات التركية الإسرائيلية لم تكن لتحرم الأتراك والإسرائيليين من مساحة محددة ومحسوبة من الانتقادات والإدانات المتبادلة عبر الحرب الكلامية الموسمية، التي قد يركن إليها الطرفان مع نشوب أية توترات بينهما لأي سبب، إن بغرض الاستهلاك المحلي أو بقصد توجيه رسائل ذات مغزى معين لمحيطهم الإقليمي وفضائهم الدولي" (12). الثاني: يرى أن "العلاقات التركية –الإسرائيلية والتي كانت وحتى وقت قريب علاقة تحالفية توترت فأشارت لاحتمالات التردي والتغيير الجوهري الذي حدث في المنطقة، فالأمن القومي الإسرائيلي أصبح يشعر بخطر كبير من بعض دول المحيط –إيران- التي كانت تشكل حليفا ونصيرا، وتحولت إلى عدو أول وتركيا التي غدت حليفا للأعداء"(13) ويؤكد ذلك تصريحات وزير الدولة الإسرائيلي بنيامين زئيف بيغن، الذي مثل رئيس وزراء إسرائيل في مؤتمر التغيّر المناخي في المتوسط، لصحيفة "تانيا" (اليونانية) أثناء زيارته لأثينا حيث قال معقبا على سؤال عن تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية: "الأمر مثير للقلق، لأنّ حزب السيد (رئيس الوزراء التركي رجب طيب) أردوغان واضح في مواقفه، وأنّ حقيقة أنه يعمل على التحالف مع إيران ليس في حاجة إلى توضيح، وأنّ هذا التحالف الجديد بين تركيا وإيران وسورية ولبنان هو أمر مُقلِق بالنسبة لنا ولأوروبا. فقد صوّتت تركيا مؤخّراً في مجلس الأمن ضد فرض عقوبات على طهران بسبب برنامجها النووي. ولذا فإنّ هذا الحلف ينطوي على أخطار جديدة بالنسبة للمنطقة بأسرها"(14)-الموقف العربي والفلسطينيبعيدا عن الموقف الشعبي العربي الذي تأثر عاطفيا بخطابات رئيس الوزراء التركي أردوغان وتصريحاته المؤيدة للشعب الفلسطيني، فإن قراءة المثقفين والأنظمة العربية والفلسطينيين (سلطة رام الله وغزة) تراوحت بين الترحيب هروبا إلى الدور الأكثر اعتدالا من الدور الإيراني المتشدد، وبين تردد أو تشكيك فى أهداف ذلك الدور سواء بالتصريح عن ذلك علانية أو الترحيب الفاتر به.لقد كان موقف النظم الرسمية العربية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بصفة خاصة بين خيارين، وهما دور إيراني قوي ومتصاعد وممتد فى المنطقة، مقابل ضعف عربي منكمش ودور تركي متصاعد ويسعى لاحتلال أكبر قدر من المساحات الشاغرة -التي تركتها القوى العربية التقليدية بعد انكماشها خلال العقد الأخير- بدلا من أن تحتلها إيران، مع الاخذ فى الاعتبار أن هذا الدور التركي -في نظر الأنظمة- يصب داخليا في مصلحة القوى السياسية الإسلامية التى ترى أن العدالة والتنمية هو أحد صور التعبير عن تلك القوى. في النهاية اختارت الأنظمة الدور التركي في ظل العدالة والتنمية، حيث كان نتاج حكم الأنظمة السابقة على السلطة أنها تصب في النهاية في اتجاه توطيد العلاقات التركية الإسرائيلية على حساب علاقاتها مع العالم العربي؛ لذا كان منحى العلاقات العربية –التركية خاصة على المسارين السوري والمصري في أفضل حالاته في ظل حكومتي الرفاه والعدالة والتنمية.دعم من ذلك التأكيد الرسمي التركي على أن "التحرك التركي في غزة تحديداً، لا يمكن له أن يتجاوز، لعوامل مختلفة، الدور المصري. وقد اعترفت أنقرة بذلك قائلة على لسان أحمد داود أوغلو: "إن الدور التركي يمكن له أن يكون مساعداً أو مكملاً، لكنه لن يحل محل الدور المصري" (15) هناك إذن تفسيرات عربية عدة للدور التركي في القضية الفلسطينية، ما بين متخوف من عثمانية جديدة(16) تفرض سيطرة تركية على العالم العربي من المدخل الفلسطيني، حتى ترحيب كبير (17) بهذا الدور بوصفه المنقذ من قمع إسرائيل للفلسطينيين في ظل الضعف العربي، وبين هذا وذاك توجد المشكلة وهي "في معرفة ماذا يريد العرب، إذ لا ت