كما في الجراحة التجميلية التي يخفى من خلالها الجراح قسمات الوهن والضعف والترهل التى تظهر على الوجه والجسد بحكم التقدم في السن ، كذلك في الجراحة السياسية التي يسعى الحكام لإخفاء التجاعيد الغائرة على وجوههم ، والشيب الزاحف على شعورهم حتى يظهروا بمظهر الحاكم الأصغر سنا ، وألأكثر حيوية ونشاطا ، وكانهم يعترفون ويقرون أن الحكم لا يصلح له إلا من هم اصغر سنا ، ولكنها الرغبة في الحكم والسلطة التي لا تقف في طريقها عمر معين ، وللتغلب على عامل العمر الذي لا يستطيع الحكام وقف عجلته التي تقلل من فرص بقائهم في الحكم ، يلجأون بحجة الحكمة والتوازن العقلى والخبرة الطويلة في الحكم إلى تبرير إستمرار حكمهم تخوفا من حكم الشباب المتهور والذى قد يقود البلاد إلى التهلكة . وما لم يدركه هؤلاءالحكام أن كل شئ يتغير حتى نظام الحكم نفسه ، ولو قارن الحاكم بين اليوم الأول لحكمه وبين اليوم ألأخير لأكتشف كم هي حجم التغيرات ، والفجوة التي باعدت بينه وبين بيئة الحكم ، وبين مواطنيه الذين قد حولهم إلى مجرد أرقام حسابيه في جيبه مثلما يحول ألأموال إلى أرصدة الحكم في البنوك . ومع التسليم بأن الحاكم إنسان سوى وعاقل ومدرك لكل ما حوله ، وأنه ليس كما يعتقد أنه يعيش في برج عاجى بعيد عن حياة الناس ، فأنا لا أؤمن بهذه الفرضية . الحاكم إنسان عاقل إلا في مسألة الحكم والسلطة ، لأنها تجلب له النفوذ والقوة والمال . وحرصا منه على هذا الحكم وحصره في دائرته فهو يبحث عن كل الوسائل لحفظ هذا الحكم ، ومن أخطر هذه الوسائل الديموقراطية نفسها ، التي يحاول أن يسخرها لتجميل الحكم السلطوى ، فلا يوجد نظام حكم أو حاكم قد ينفى عن نفسه صفة الديموقراطى . بل قد يذهب الحاكم في هذه النظم السلطوية إلى وصف نفسه وحكمه بالنظام ألأكثر ديموقراطية ،وأنه مستهدف لأنه يعمل من اجل شعبه . وهنا التناقض بين الديموقراطية والسلطوية وكيفية الجمع بينهما ، وهنا أيضا التناقض بين الدول الديموقراطية وموقفها من إستمرار هذه النظم . و يفترض أن لا تقابل بين نظام حكم ديموقراطى ونظام حكم سلطوى . ولعل أفضل العلاجات التي قد توصل إليها الحكم السلطوي هي الجراحة التجميلية لنظام الحكم القائم . ومن هذه العلاجات إقرار الإنتخابات الدورية ، لكن ليس مهما نتيجة هذه الإنتخابات ، فلا مانع من هذا الحق الإنتخابى طالما يمكن ألتحكم في نتيجتها وتزويرها في خدمة النظام القائم . والمهم اليست هناك إنتخابات . ولا مانع لدى الحاكم السلطوى من تعددية حزبية ومعارضه سياسية ورقية حتى يباهى بها النظم الديموقراطية ألأخرى ، والمعيار هنا التعددية الشكلية وليس الفعلية ،فطالما أن هذا التعددية الحزبية تعمل تحت مرأى وبصر الحاكم وأجهزته الرقابية والإستخباراتية فلا مانع من وجودها ، بل إن وجودها يؤدى خدمة كبيرة للنظام. ومن العلاجات التجميلية السماح بوجود مؤسسات المجتمع المدنى بكل أشكالها ، ولكنها إذا خرجت من دائرة الحكم فتهمة التمويل الخارجى مسلطة على كل أنشطتها. ومن الوسائل ألأخرى السماح بقدر من المعارضه الصحفية والنقد عبر بعض الوسائل الإعلامية ، لأن هذه النقد ورقة رابحه في يد الحاكم يمرر من خلالها سلطوية النظام القائم ، ومن خلالها يتباهى الحاكم بوجود نقد للحاكم ، ولكنها في الحقيقة معارضه مسيسة ، وموظفة لخدمة الحاكم . ولا يستبعد أن تكون هذه المعارضه جزء من النظام نفسه. وأما في مجال الحقوق والحريات ، فقد يذهب النظام بعيدا في التاكيد على حقوق المواطن علنا وفى الخطب الرسمية ، ولكنها حقوق وحريات مدونة في دساتير لا تعمل ، المهم أن هناك حقوق وحريات دون أن تمارس ،ويمكن للحاكم أن يمنح هذه الحقوق ويسلبها عبر وسائل ومؤسساته ألأمنية ، وعبر الإعتقالات والملاحقات والنفى الخارجى وقوانين الطوارئ . ومن أبرز هذه الجراحات التجميلية مجالس الشعب التي يسيطر عليها حزب واحد ، وفى الحقيقة تتحول هذه المجالس إلى آداة في يد الحاكم لتمرير القوانين والتشريعات التي يريدها إستمرار الحكم في حكمه ، وبالتالي تتحول هذه المجالس من قاعدةالنائب يمثل الناس ويريد من يريدونه إلى نائب يمثل الحاكم ، يريدون ما يريده الحاكم . ولعل من أعلى درجات الجراحة التجميلية الديموقراطية توريث الحكم عبر الديموقراطية . كما حدث في سوريا ، وما كان سيحدث في مصر وليبيا واليمن . ولا أحد يعترض أن أبناء الرؤساء من حقهم مثل أي مواطن آخر أن يتنافسوا على منصب الرئاسة ، ولكن عبر وسائل ديموقراطية حقيقية ، لكن التوظيف الديموقراطى يتم عبر تقييد دستورى أو تعديله لمن له حق الترشح للرئاسة ،أو من خلال إصدار قوانين معينه تحدد مرشح الرئاسة في إبن الرئيس ، أو من خلال وهذا هو ألأخطر تفويض مجلس الأمة او الشعب ومنح هذا الحق لإبن الرئيس مثلا بعد وفاته او مرضه . وقد تذهب هذه النظم بعيدا بتقديم إبن الرئيس وكانه الرئيس الفعلى . وبهذه القراءة يتضح لنا بعد المسافة بين الديموقراطية الليبرالية المرتبطة بالسلطوية وبين الديموقراطية الليبرالية اللصيقة بالديموقراطية الليبرالية نفسها . وهذا الترابط غير الطبيعى أو المصطنع هو الذي يفسر لنا فشل كل التجارب الديموقراطية التي شهدتها الدول العربية ، وفشل عملية ألإصلاحات الساسية التي قام بها النظام الحاكم. وتحولها لإصلاحات شكلية ورقية بعيده كل البعد عن جوهر ومضمون نظام الحكم القائم ، بمعنى أنها لا تصل إلى تغيير نظام الحكم السلطوى . وهى التي تفسر لنا حالة الثورات العربية الغاضبة على تغيير أنظمة الحكم القائمه . ومن المفارقات السياسية في هذا التزواج تلك المرحلة التي يشعر فيها الحكام أنهم على وشك ترك مناصبهم وفقدان حكمهم ، فيحاولون تطبيق نفس الجراحات السابقة ، بعرض رزم من الإصلاحات التدريجية لإحتواء غضب جماهيرهم ، وإحتواء الثورات القائمة بالإلتفاف حولها من خلال هذه الرزم الإصلاحية الشكلية ، ويتناسون انه لم تعد هناك ثقة بكل هذه الوعود . وكان يمكن إن تكون لهذه الوعود جدواها لو كانت منذ بداية الحكم ، وشعر بها المواطن في حياته ، ولو أدرك الحكام قيمة الديموقراطية وقيمة الحكم الرشيد ، وقيمة الحكم الصالح ، ولو أدركوا ماذا يريد أبناء شعبهم لكان هذا أقصر الطرق لبقاء الحكام وتحولهم إلى حكام لهم صفة القدسية في عيون مواطنيهم.. أستاذ العلوم السياسية /غزهdrnagish@gmail.com