ايلان غرزون هو محام يهودي امريكي، مختص بالقانون الدولي، تولى في ادارة ريغان عمل مستشار في الوفد الامريكي للامم المتحدة (فهو الذي نجح قبل عدة سنين في اضطرار حكومة ليبيا الى دفع تعويضات الى عائلات ضحايا الارهاب الجوي المعروف باسم كارثة لوكربي). يهاجم غرزون في مقالة نشرها في مجلة شهرية جليلة للقانون الدولي، ادارة اوباما في شأن الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني، وأسهم انتقاده موجهة في الأساس الى الطلب الامريكي المعلن من اسرائيل ان توقف كل بناء وراء الخط الاخضر وفي ضمن ذلك القدس، وهي خطوة سبّبت من جملة ما سبّبت تطرف المواقف الفلسطينية. لكن هذا انتقاد شائع. أما ما يثير الاهتمام أكثر في انتقاد غرزون فهو زعمه أن علنية عرض مواقف سياسية لا تُمكّن من اجراءات دبلوماسية حقيقية، ولهذا تنبغي العودة الى طريقة "الغموض الخلاق". أي أن يُمنع وضع يثبت فيه الطرفان ثباتا متطرفا على مواقفهما المعلنة حتى لا يكون عندهما امكانية الرجوع عنها دون جباية ثمن باهظ في المجال السياسي الداخلي وفي مجالات اخرى. وغرزون على حق مبدئيا وبحسب التجربة التاريخية. فقد مكّن الغموض الخلاق مثلا اسرائيل ومصر من التقدم نحو اتفاق السلام بينهما. والسؤال هل يمكن في عصر "ويكيليكس" الحفاظ على الغموض، وفوق ذلك هل سيساعد هذا التفاوض مع الفلسطينيين، لانه يبدو أن الفلسطينيين ليسوا معنيين ألبتة بالتوصل الى تفاهمات مع اسرائيل – سواء أكان الحديث عن تفاهمات غامضة أم كان الحديث عن تفاهمات واضحة شفافة. يبدو الآن أن القيادة الفلسطينية ستستمر في إفشال كل محاولة لتفاوض حقيقي مع اسرائيل ما ظلت تؤمن بأنها تستطيع التهرب من مصالحات تُطلب اليها للتوصل الى تسوية. ولن يهادن الفلسطينيون ما ظلوا مؤمنين بأنه يمكن التقدم نحو أهدافهم بواسطة الامم المتحدة، والرباعية الدولية والولايات المتحدة أو جهات دولية اخرى. إن الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود 1967 من قبل دول مختلفة في امريكا الجنوبية هو خطوة في هذا الاتجاه (تشهد ايضا على ضعف مكانة الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى المهيمنة والتي تصبغ بصبغتها الاجراءات السياسية لجاراتها اللاتينية). كرر أبو مازن نفسه نواياه في المؤتمر الصحفي الذي عقده في عاصمة البرازيل – وكتب صائب عريقات كلاما أكثر صراحة، وهو الذي يرأس فريق التفاوض (غير الموجود) الفلسطيني. لم يترك عريقات، الذي حضر في حينه مؤتمر مدريد وعلى كتفيه كوفية متحدية (وطلبت اليه رئاسة المؤتمر نزعها) لم يترك شكا في نواياه في المقالة الشهيرة التي كتبها في صحيفة "الغارديان". لن يوافق الفلسطينيون على أي تسوية مع اسرائيل بغير "حق العودة للاجئين". وبعبارة اخرى ليست المستوطنات أو البناء في القدس السبب في الرفض الفلسطيني بل إصرارهم على مطالب متطرفة يثيرونها عن علم واضح بأنها ستُفشل كل احتمال لشق طريق. في ضوء ذلك ربما تضطر اسرائيل، غير المعنية باستمرار الوضع الراهن، الى أن تزن اتخاذ مبادرات خاصة بها. سواء أكان ذلك، كما أشار رئيس الحكومة في الاسبوع الماضي، بتسويات مرحلية أو تسويات جزئية أو خطوات أحادية الجانب (لكنها تختلف عن تلك التي أخذ بها اريك شارون في حينه). والسؤال هل يرى الامريكيون ايضا الصورة الحقيقية أو أنهم سيُثيرون مرة اخرى مطالب غير منطقية وغير مجدية كما فعلوا في الماضي؟ يبدو أن لا الآن، وينبغي الأمل أن يكون هذا موقف واشنطن في المستقبل ايضا. لكنه كما يبدو منذ ايام اوباما الاولى في الرئاسة، فان سياسة الادارة الخارجية ليست ثابتة بالضبط اذا لم نشأ المبالغة. فالطريق من "خطبة القاهرة" والمحاولات المفرطة لاعجاب العالم الاسلامي، الى زيادة القتال في افغانستان وباكستان مرصوفة بالاعوجاج. وما يزال الامتحان الايراني أمامنا. قد لا يكون تغير التوجه العقائدي والتصور العام الأساسي للرئيس، لكن الحاجة الى مواجهة الواقع الدولي والسياسي في الداخل ستؤثر ايضا في اجراءات الادارة في مجال السياسة الخارجية وفي ضمن ذلك شأن الشرق الاوسط. بأية طريقة؟ ليس هذا واضحا. على كل حال، يجب على واشنطن والقدس أن تُعلم احداهما الاخرى بالنوايا، ومن المرغوب فيه ان يكون ذلك مع الحفاظ على الغموض الواجب من ذلك.