التسريبات المنفعلة انتقلت كالتيار الكهربائي بين مصادر رفيعة المستوى والصحفيين المتأثرين في قاعة فندق "مايبلور" في واشنطن، ساعة – ساعتان بعد الاحتفال في البيت الابيض في 13 ايلول 1993. كلمات بارزة مثل كازبلانكا، الرباط والملك الحسن همس بها في آذان المراسلين المحظوظين الذين تمكنوا من نقل التقارير الى صحفهم قبل أن تغلق طائرة بوينغ 707 القديمة لسلاح الجو ابوابها وتقلع الى افق سياسي جديد. في تلك اللحظات من الطيران البكر الى المغرب كان يخيل ان غير المقبول على العقل يصبح أمرا اعتياديا. فقبل بضع ساعات فقط من ذلك وقف اسحق رابين وياسر عرفات في ساحة البيت الابيض، وأنا لا ازال أتذكر الشفة المدلية والعينين المذهولتين للصحفي الاسرائيلي الذي جلس الى جانبي وتلعثم بالقول "انه لن يصافحه، انه لن يصافحه" – الى أن صافحه، والسماء لم تسقط. في تلك اللحظة هكذا كان يخيل، أنه برفعة ذراع من الكسندر المقدوني الذي بضربة سيف حل العقدة العسيرة. هكذا، في اجواء الحلم، اطلق الخيال الذي ذكر، على الاقل اولئك الذين ارادوا ذلك، بفتح ابواب طائرة الرئيس أنور السادات في مطار بن غوريون في تشرين الثاني 1977. ومثلما كان في حينه، هكذا كان يخيل، يقع امام ناظرينا حدث فوق واقعي بين وجودين منفصلين، بين الحال ونقيضه، تلك "القفزة على الطريق" الصوفية التي تلغي المسافة بين الاسطورة اليهودية وعلوم الخيال. بعد شهر من ذلك بالضبط اختاروني، الى جانب زميلي من التلفزيون دان سمما، رحمه الله، لمرافقة رابين لزيارة الى الصين، ولقائه المفاجىء في جاكرتا برئيس الدولة الاسلامية الاكبر في العالم، سوهارتو من اندونيسيا. وأذكر اننا كلانا وقفنا خارج مكتب سوهارتو، ندخن، نبتسم وراضين عن أنفسنا ظاهرا، ونتحدث بانفعال: "من كان يصدق، من كان يصدق". لا ريب أن السنة التي تلت التوقيع على اتفاقات اوسلو كانت مثابة العصر الذهبي في علاقات اسرائيل الخارجية: العالم العربي انفتح، اوروبا عانقت والاستثمارات تدفقت بالمليارات. رابين، المناهض للدبلوماسية في جوهره، عرف كيف يقيم علاقات شجاعة، صداقات استثنائية وجدت تعبيرها في الصور الايقونية من البيت الابيض، حيث رتب له كلينتون ربطة العنق، ومن القصر الملكي في العقبة حيث اشعل له الملك سيجارة. كان واضحا منذئذ بانه ليس سهلا طريقنا، وان عرفات بعيد عن ان يكون الشريك المنشود والعمليات الكبرى، بما فيها عملية غولدشتاين في الخليل – تقطف حياة عزيزة وتضع الغاما على الطريق. ولكن عندما وعد رابين في تشرين الاول 1994، في نقاش في الكنيست على اتفاق السلام مع الاردن بانه "لن نكون بعد اليوم شعبا وحده يسكن"، كان هذا لا يزال يبدو للسامع كتوقع معقول جدا. ومع أننا اليوم أقنعنا أنفسنا بان عرفات لم يعطنا ابدا شيئا ذا قيمة، كانت تكفي جملة واحدة من "رسالة الاعتراف" التي بعث بها الى رابين قبل بضعة ايام من الاحتفال في البيت الابيض كي ترتب لنا بطاقة دخول الى النوادي التي تطلعنا دوما للانضمام اليها. "م.ت.ف تعترف بحق اسرائيل في العيش بسلام وأمن"، ورد هناك، وهكذا شق الطريق لاتفاق السلام مع الاردن – الذي وقع في العربا، في احتفال سريالي بحد ذاته – والرفع الهام لمستوى مكانة اسرائيل بين الشعوب. غير أن الاجماع الذي نشأ مع مرور السنين ضد اتفاقات اوسلو يعانق، للاسف، ثماره السياسية. "الشرق الاوسط الجديد" الذي فكر فيه شمعون بيرس وجسده اسحق رابين أصبح مفهوما حقيرا. الشعبية الدولية تصنف عندنا اليوم كتحصيل حاصل للضعف الامني، مثابة أنا منبوذ إذن أنا محق، وكأن السنة لا تزال 1957 وافرايم كيشون كتب لتوه المقطع العبقري "كيف فقدنا عطف العالم". ومثل الرجل المتبجح الذي يفتح فمه على الشابة التي ردت لتوها مغازلاته، اصبحنا مدعي حق غاضبين نتميز اساسا بالتوبيخ للاخرين. لا يدور الحديث عن جدال حول قيمة اتفاقات اوسلو، ولا عن جوهر "إرث رابين"، وبالتأكيد ليس عن الاحتفالات، التشريفات والانفعالات السياسية. ما خُفي، كما يبدو، هو الاحساس المتفائل بان العالم يتغير ايجابا، وان مصيرنا في ايدينا، وليس العكس وان اسوار الغيتو تنهار نهائيا. بعد الحدث يبدو هذا ساذجا، بلا ريب، وبالتأكيد من المناسب للسؤال الذي طرحه الشاعر جوردون في القرن التاسع عشر: "هل تخيلت حقا أن في قفزة على الطريق سأنقلك الى المكان الذي جئت منه"؟ * * * هذا الاسبوع بث البرنامج الاعتباري في شبكة سي.بي.اس: "60 دقيقة" تقريرا عن الحفريات وعن الاستيطان في سلوان. كل الذين اجريت المقابلات معهم بمن فيهم رئيس البلدية نير بركات، كانوا يتحدثون الانجليزية بطلاقة، ومنحوا زمنا وسمح لهم بطرح مواقفهم بشكل مفصل. كما لا يمكن القول عن المراسلة المجربة ليسلي ستال انها تعتقد ان الجمل في اسرائيل هو أداة مواصلات مركزية او أن المنقل البدائي هو الطباخ الفاخر الذي يعرض في الدعايات الصبيانية لوزارة الاعلام. وبالتالي فالمشكلة كانت في الحقيقة معاكسة. ستال ومشاهديها فهموا بالضبط الموقف الذي عرض عليهم، أي من الافضل توطين حفنة من اليهود في اوساط السكان الفلسطينيين المكتظين، وان حقوق اليهود تفوق أي اعتبار آخر وان من يفكر بان المدينة ستقسم في اطار التسوية السلمية، يا عزيزتي ليسلي فلينسى ذلك. هكذا بحيث انه في هذه الحالة لا يمكن ايضا النزع باللائمة على السطر الاخير: ضربة قاضية اخرى للاعلام الاسرائيلي. * * * ميل اسرائيلي معروف هو تعداد كل خطيئة صغيرة لكارهينا ولكن تجاهل مشاكل كبرى لاصدقاء يقفون الى جانبنا. مثال ممتاز على ذلك هو كندا التي تحت قيادة رئيس الوزراء ستيفان هاربر أصبحت ربما الدولة الاكثر ودا لاسرائيل في العالم. الكنديون معنا بالنار والماء، الى هذا الحد او ذاك دون شكاوى او اعذار. مؤخرا، طلب هاربر ضم كندا الى مجلس الامن، ولكن تبين له ان الفرص صفر، ضمن امور اخرى لان كتلة الدول العربية والاسلامية في الامم المتحدة قررت معاقبة اوتوا على دعمها الثابت لاسرائيل. وسحب هاربر الترشيح وتلقى حرجا سياسيا داخليا وخارجيا شديدا. اذا لم يكلف أحد نفسه حتى الان العناء فمن المناسب بالتأكيد ان نوجه شكرنا الى صديقتنا الكندية المنبوذة مرفقة بالتحية المعروفة: أهلا وسهلا بكم في النادي.