"المتمردون الاكراد سيغرقون بدمائهم"، اعلن رئيس الوزراء التركي طيب اردوغان في بداية الاسبوع. ثمة شيء يبعث على القشعريرة في هذه الصيغة، شيء يعود الى عهود اخرى. انسوا المفاوضات التي "يطرح الاطراف فيها مطالبهم الشرعية على طاولة المباحثات"، أو عمليات عسكرية محدودة تعاقب "مثيري الحرب" او "المسؤولين عن العنف". انسوا السلام والامن. وبدلا من كل هذه الصور تصوروا ثأرا عديم الجماح، عنيد ولكن فتاك، أنهار من الدم المسفوك. كل هذا هو بالطبع موضوع لغة. مثلما علمنا التاريخ – غير قليل التاريخ اليهودي – اللغة الطاهرة والمغسولة لا تدل على استعداد أقل للوحشية، والاعلان عن الاستعداد للتضحية "بمليون جندي" (هكذا صرح السادات قبل حرب يوم الغفران) لا يعني بالضرورة ان المتحدث بالفعل مستعد لسفك الدماء دون حدود ويرفض كل امكانية لمفاوضات عقلانية. التجربة تدل على أنه يمكن الارتفاع في التصريحات عن الدم والنار والعمل باعتدال برغماتي. كما يمكن تكرار كل الكليشيهات الانسانية وفي نفس الوقت العمل دون كوابح – بإسم اخوة الشعوب، بإسم الانسانية، بإسم العدالة. ولكن الاعلان يمثل الفجوة الثقافية التي تفتح فاها بين الجماعات الانسانية التي تتحدث نظريا بذات اللغة او اللغة القابلة بسهولة الى الترجمة اللفظية ولكنها تعيش عمليا في عالم صعب إن لم يكن متعذر فيه حملها على الاتصال في ما بينها. اردوغان سعى بالاجمال الى القول انه سيقاتل دون هوادة، ولكن اللغة التي استخدمها عبرت عن الذاكرة التاريخية لامبراطورية تقمع دون رحمة المتمردين عليها وترى شرعية لانهار الدم. رئيس وزراء تركيا يعرف بالطبع الواقع الذي يعني ان تركيا لم تعد امبراطورية، ولكن المشاعر الامبريالية، والاستعداد للشعور بالاهانة بسرعة، لم تختفي مع اختفاء الحكام العثمانيين عن المدن. لعل العكس هو الصحيح. في الشرق الاوسط وفي العالم الاسلامي بشكل عام الاحساس العام هو احساس التخفف من الاملاك، الفقدان الذي هو أخطر من فقدان القوة. لقد فقد المسلمون الشعور بالهيبة التي كانت لهم في الماضي. الغرب، ونحن من ضمنه، يهزأ بهم. وبالتالي فقد طوروا حساسية تجاه كرامتهم. وعلى طريقة من يشعرون بالاهانة فانهم يؤمنون بالعنف الذي هو دوما ردا مناسبا للمس بالكرامة. احدى مشاكل السياسة الاسرائيلية هي أنه لاسباب ثقافية تميل الى أن تؤدي الى مس شبه محتم بكرامة الاخرين. نحن نسير على اطراف اصابعنا، جزئيا انطلاقا من انعدام الحساسية وجزئيا انطلاقا من الاستفزاز. في الثقافة الاسرائيلية تعبر المباشرة والفظاظة عن الاستقامة والصدق – نحن نتحدث "دغري" ولا نجمل الواقع. كما أنها تعبر عن الاستفزاز: كمن دحروا في اثناء التاريخ الى موقع عديم الكرامة، يشعرون بالاهانة ولا يوجهون الاهانة، مهم لنا ان نوضح للجميع بان لا لاحد إمرة علينا ولسنا ملزمين بالحذر تجاه كرامة أحد. هذا النهج قدم لنا هنا وهناك احساسا من الرضى الذاتي والقامة المنتصبة الوطنية، ولكن في نفس الوقت جبى منا ثمنا باهظا وزائدا. دولة اسرائيل دفعت ثمنا على اهانة السفير التركي وتدفع ثمنا باهظا أكبر على سلوكها في معالجة الاسطول. وفي موقفها من الشركاء المسلمين الاخرين، تثير المعارضة، التي تنبع من انعدام حساسية ما اصبح عندنا سمة للشخصية. فضلا عن موضوع التأييد لحماس، التي يتشدد عندنا في وسائل الاعلام، كان في سلوكنا تجاه السفينة التركية التي تقل مواطنين أتراك تعبيرا عن الاستخفاف بكرامة الاتراك، الاستخفاف – حتى للخصوم الالداء لاردوغان ممن يحتقرون حماس ويريدون سقوطها - الذي يجدون صعوبة في ابتلاعه، وندفع نحن عليه حاليا الثمن ليس بالكلمات بل بالافعال. هذا مؤسف لان هذا يعرضنا كمن لا نفهم سوى لغة القوة. الحذر تجاه كرامة من يحادثنا لا يعني التخلي عن مصالحنا. احيانا بعض اللباقة توفر لنا الكثير من الدم، والتخلي عن حق بدء الحديث يسمح لك بان تقول الكلمة الاخيرة.