اسطنبول / رغم افتخار زوجة الشهيد التركي جودت كيليتشلار، إلا أن الفراق جمع كل الذكريات لتتدفق هادرة كالإعصار على هذه الأم التي تركها زوجها من فوق أسطول الحرية مرتقياً بروحه إلى حيث الشهداء، لترص كل أحلامه بـ’غزة الحرة’ في مسبحة أو عقد تلفه حول عنقها عازمة بشجاعة نادرة على تحقيقها، عبر امتطاء كل الأساطيل المقبلة باتجاه غزة. لم يكن لقاء زوجة شهيد سقط لتوه بالأمر الهيّن على شقيقة شهيد اختطفته شظايا الغدر العمياء من بين أسرته وأطفاله حتى من قبل أن يتعرفوا على ملامح وجه أبيهم.. كانت اللحظات قاسية وأنا أحاول جاهدة الفصل بين تشابهنا في الوجع وبين طبيعة عملي التي تتطلب منى استخراج شهادة ساخنة من بين أضلع سيدة لا تغيب عن عينيها صورة زوجها وهو مسجى فوق السفينة دون أن تعرف من أين جاءه الموت الغادر. اقتربت إلى قلبها كثيراً حتى أصغي إلى جوقة حزنها وألتمس مواضع اعتزازها، وزهوها، بزوجها الذي ارتقى شهيداً على متن سفينة مرمرة، التي كسرت موج الخوف لتخوض معركة الإنسانية في عرض البحر. زوجة الشهيد التركي جودت، نظرت بعينيها، وقالت: رغم أن قلبي يبكي على فراق زوجي، إلا أنني أشعر بأنه قد فاز بما كان يشتهي، نعم زوجي كان يطلب الشهادة في سبيل الله، وكلما شاهد الضحايا تسقط في فلسطين، يبكي من شدة تأثره، ويقول لي وللأولاد: ما ذنب الأطفال والنساء ليقتلوا ويحاصروا في غزة؟، ولم أجد في تأثره غير المشاعر الكبيرة التي تقوده إلى الحملة الأوروبية ليسجل اسمه ويودعني ذاهبا إلى غزة وأطفالها المحاصرين. هذه العبارات تقولها زوجة الشهيد وعيونها تمارس من خلف تلال حزنها ضبط الدمع في الحدقات، وتتهرب من استحقاق الواقعة بالبكاء، لتخرج بعض صور الشهيد مع ابنته البالغة من العمر 15 عاماً، وابنه الذي بلغ سن الـ13 عاماً، فالشهيد شاب لم يصل الأربعين من عمره بعد، وصور زفافه ما زالت ترسم الابتسامة لجدار البيت الحزين على فراقه. بنظرة شجاعة قادتني إلى صالون منزلها الكائن في مدينة باشكاشاهير باسطنبول، وقرب التلفاز تناولت كوباَ من الشاي الساخن، وقالت: ’أنتِ شقيقة شهيد وفلسطينية، وهذا يزيدني اعتزازا أنك من تلك البقعة الشريفة التي مات من أجلها زوجي...’ ولم تمسح مجرى كحل العين بعد تواتر دمعها في لحظة حزن ضاغطة، لتقول: ’سأكون من بين الذين سيركبون البحر إلى غزة، إذا ما نظمت قافلة ثانية. أقسم لك أنني سأكون ممن سيغادرون اسطنبول إلى غزة، ورسالة زوجي سأوصلها إلى الأطفال المحاصرين.. وغاب صوتها في منديل أبيض شوش بياضه الكحل أسود. وأضافت: منع قبل هذه المرة من دخول غزة عبر معبر رفح، ولكنه أصرّ على الوصول إلى غزة عبر البحر.. كان يحب الفلسطينيين ويتعاطف مع معاناتهم كثيراً، يغضب عندما يعرف إذا ما قتل أحد في غزة والضفة، عمله في الإغاثة الإنسانية كان يجعله دائم الانشغال، لم أكن أكره هذا فيه بل أفتخر أنني اقترنت بإنسان مثل جودت. زوجة الشهيد توشحت بالكوفية الفلسطينية، كذلك زينت جدران بيتها بالأعلام الفلسطينية والتركية، لتؤكد أنها على وعدها مع زوجها وعهدها بأن تكمل الرسالة من بعده. من تركيا إلى بحر اقترب من أرض محاصرة بالمعاناة والعزلة عن العالم، خرجت روح صادقة، لإنسان اسمه جودت، تاركاً من خلفه فتاة وفتى وزوجة ترفض أن تتراجع خطوة عن غاية زوجها الشهيد، لتقول بصوت شجاع وغاضب: ’كفى هذا العالم ظلماً.. ليرفعوا الحصار عن الأطفال والنساء والدواء، فدماء زوجي ومن معه ليست رخيصة’.