في الخامس عشر من أيار 48، كما في كل خامس عشر من أيار بلادنا: امتلأت رئتا العالم برائحة ربيع فلسطين المشبعة بالدم والدموع والبارود. مع الخامس عشر من أيار ولج العالم دهاليز سردية مطولة، رواية متعددة الفصول، حكاية مفتوحة على الاحتمال والتكهنات. تستمر أحداثها، منذ اثنين وستين عاماً، لاهثةً ساخنةً ومؤلمة، تستمر بقوة العادة أو بفعل المؤامرة والعجز، أو لأن إرادة الله نافذة. في ذاك اليوم فُتح جرحٌ وأُعلنت بدايةُ النزيف. يسألنا الأطفال أحياناً: ولكن، كيف وقعت النكبة؟ ولماذا؟ فلا نجيبهم، نشيح بوجوهنا عنهم (الإحساس بالحزن يملأ قلوبنا والغضب يكاد يعمي عقولنا) ونفشل في ترتيب أفكارنا: التاريخ لا يتكرر، وإن فعلها، فتارة بصورة هزلية وتارة أخرى على شكل مأساة: ولكنه في كل الأحوال يقدم دروساً وعبر (عدم الأخذ بها والتعلم منها يجعلنا نعتقد أن ثمة نكبة أخرى محتملة). في ذكرى النكبة يجدر بنا أن نتوقف برهة لتأمل ذاتنا ونجيب على عديد الأسئلة التي تثيرها هذه الذكرى بما يعين على تقييم اللحظة الراهنة وفحص مدى قدرتنا على الاستجابة للتحديات التي لازالت تطرحها تلك النكبة التي ألمت بشعبنا في غفلة من الزمن، لعلنا ندرأ فرصة محتملة لتكرارها بصورة أو أخرى (ولم لا إذا كان شارون أعلن مع مطلع الألفية سعيه لاستكمال المرحلة الثانية من المشروع الصهيوني) (1)من هو العدو الذي أوقع بنا كل هذه النكبة؟ وما هي العوامل التي مكنته من تحقيق أهدافه وغاياته؟ يقول روحي الخالدي أن الصهيونية نهلت من ينابيع فكرية، وحددت غايات سياسية، وامتلكت أدوات عملية نقلت مشروعها من حيز الفكرة إلى مجال التطبيق: وظفت النخبة اليهودية المثقفة والفضاء الإعلامي (أي ذلك المزيج من الثقافة والمراوغة واليوتوبيا المختلفة والقدرة المالية المبهرة). تكاملت في مشروعها عناصر المعرفة والقدرة وسطوة الثروة اليهودية، وامتلاك ذاكرة تاريخية وظفتها بطريقة عقلانية وديناميكية لخدمة أهدافها ومصالحها، كما حظيت بعطف أوروبا ورعايتها (في الخلفية نزعة صليبية قديمة، وعنصرية طاغية، وسعي محموم وراء مصالح استعمارية). غير أن العامل الأهم ربما، تمثل في ضعف خصمها، ذلك الفلاح الفلسطيني البسيط الذي لم يرث من إدارات سابقة سوى الكثير من الخراب. ويلخص الخالدي سبب الفجيعة في جملة واحدة: العطالة العربية مقابل الفاعلية الصهيونية، والتبعثر على مستوى المنظور والرؤية. غزة مايو 2010 (2) إذن، لا يصعب الاستنتاج أن هذا الشرط التاريخي للنكبة الأولى يعاد إنتاجه في هذه الآونة: عطالة عربية مقابل فاعلية إسرائيلية وانقسام عميق على مستوى المنظور والرؤية فلسطينياً وعربياً. علاوة على شروط ومحددات أخرى شديدة الشبه بالأمس (الإفراط في تقدير القوة الذاتية، وراثة الكثير من الخراب والفساد، الرعاية الأمريكية منقطعة النظير، القدرات الإسرائيلية الهائلة،...). وليس، سوى إرادة الفلسطيني الذي لازال يساوي بين الأرض وشروط البقاء، باقية ومؤهلة لإحباط أكبر عملية سطو مسلح في التاريخ المعاصر (ولذلك، يجري العمل على كسر هذه الإرادة بشتى السبل والوسائل). (3)مع استمرار النكبة، لا يكف الفلسطيني عن محاولات إزالة آثارها حتى بعد عقود طويلة من المعاناة واليأس والإحباط والانتظار. ومع استمرار النكبة تتبدل المواقف وتتغير المواقع: فالعالم الذي ساهم بقوة في إنتاج نكبتنا وغض الطرف طويلاً عن مأساتنا بدا يعيد حساباته ويغير من نظرته وتجهر بعض قواه الفاعلة بمواقف أكثر إنصافاً واتزاناً، غير أنه لازال في الواقع يكتفي بترميم خرائب أنتجتها عقليةٌ عنصرية مجنونة، ويريح ضميره بمداواة جراح أثخنتها آلةٌ حربية منفلتة من القانون والعقل والضمير. هذا العالم بات يقف على مسافة بين الجلاد والضحية خالطاً أحياناً بين أَنفة الضحية وعنف الجلاد، حائراً بين لغة سلام مأمول لا يأتي ومصالح حقيقية تدفعه إلى طأطأة الرأس والإذعان لطواغيت المال والإعلام وأيديولوجيات التفوق السائدة في عواصم القرار الدولي. (4)وفي مواجهة واقع الشطب الدامي عمل الفلسطيني على إنعاش ذاكرته: بالرموز والاستعارات والطقوس وبالمخيلة الحبلى بالصور. ولا يضيره أن صور الأمكنة التي يحتفظ بها معلقة على جدران الذاكرة لم تعد هي الصور ذاتها اليوم في الواقع. خلال سنوات البعد الإكراهي احتلت الأمكنة حيزاً مهماً من قلوب اللاجئين وعقولهم وذاكرتهم، وارتسمت في أذهانهم صور تزداد وضوحاً مع الأيام: خارطة لأزقة المدن وحاراتها وشوارعها وطرز بناياتها ولأنواع أشجارها وللجبال المحيطة بها. تنشيط الذاكرة يعادل غياب الأرض، وإعمال الخيال في إعادة إنتاج صور الأمكنة يوازي عملية التفاعل مع الأرض وتعزيز فكرة الانتماء ورفض أي حالة تكيف أو نسيان. لعبت الذاكرة دور المحفز على الكفاح وضمان استمراريته. يقول حسن خضر أن جده، الذي عاد بعد سنوات من النكبة إلى قريته الممسوحة عن وجه الأرض، بدا يمشي محاذراً الاصطدام بجدران لم تعد قائمة سوى في خياله. ولهذا السبب، يقول إبراهيم أبو لغد، نحيي ذكرى النكبة: لتنشيط الذاكرة بما يعيننا على تجاوز أثارها "عندما تعجز الأرض تحت ظروف القهر والاحتلال والاغتصاب عن أداء مهمتها كوعاء للوطن، يحتضن أثاره وقيمه ويشهد على هويته وتاريخه، يتلقف المواطن هذه المهمة، ويصبح الوعاء الحاضن الشاهد، وتصبح الذاكرة بديل الأرض وما من قوة بقادرة على قهر الذاكرة أو دحر الوجدان، فالذاكرة بطبعها عدوة القهر". وذاكرة الفلسطيني ذاكرة وطنية شاملة، يحافظ على نقلها بأمانة لأجيال قادمة، لعلها تتمكن ذات يوم من إزالة أثار نكبته، فيواصل ما كان قد بدأ به: عمران الأرض وتوسيع خيارات الحرية والسعادة للبشر بغض النظر عن أصولهم العرقية أو تفاوت دياناتهم واختلاف ألوانهم. تنطوي العملية الكفاحية الفلسطينية من حيث الجوهر على أولوية تعزيز قدرة الفلسطيني على إعادة إنتاج علاقته التاريخية بالأرض والصمود فوقها على مستوى الفعل والذاكرة، أي ضد دينامية تحويلنا إلى فائضين عن الحاجة (وهنا يمكن اكتشاف مكامن الخلل والعلة: الإفراط في الخيال على حساب الواقع، الأقدام المعلقة في الفراغ، تخصيص موارد هائلة للسلاح والأمن بينما تهمل الزراعة-على سبيل المثال- بالرغم من أنها بمثابة الرابط الأقوى بين الإنسان والأرض،..) (5)ربما لا يوجد في قاموس لغة العرب الحديثة كلمة تضاهي النكبة من حيث المعاني التي تحملها والدلالات التي تشير إليها. كلمة من أربعة حروف مشحونة بالآلام والأوهام، بمشاعر الغضب والخوف، بتفاصيل إنسانية مرعبة، وتقسيمات ألم غير معهود، النكبة بوصفها عملية مباغتة للتاريخ وهدوء الجغرافيا، مجهضة لأحلام الصبايا والفتيان اليافعين، قدر يسقط دفعة واحدة من السماء على رؤوس الفلاحين وقت الحصاد، لا يستطيع البشر أن يفعلوا إزاءه شيئاً، كأن النكبة قادمة إلى التاريخ من خارجه، أو كأنها شيئاً يحدث بفعل الطبيعة. النكبة أكبر عملية سطو مسلح عرفها التاريخ في قرن العرب الملئ بالأحلام والأوهام. النكبة بوصفها جرح مفتوح لم يندمل بعد، بدايتها مفتوحة على الأساطير وعبث الأقدار وجنون قوى إمبريالية لا تعرف إلا التوسع والتمدد والتهام البشر، ونهاياتها مفتوحة على الاحتمال: ففي كل 15 أيار يقف الفلسطيني على أطلال حلمه ويظن أنه بات يعرف أين هو الآن، ليكتشف في اليوم التالي تماماً، على صوت هدير الدبابات وأزيز الطائرات وثغاء جنود الحواجز ونظرات موظفي الجمارك في المطارات الباردة، أن نكبته لازالت مشروعاً قابلاً للاستمرار ومرشحاً لمزيد من الدم والدموع والخسارات والجنازات وشعارات الإذاعات المخبولة في زمن الانقسام الرديء. النكبة، يقول إدوارد سعيد، تعني أننا جميعاً فقدنا كل شيء بطريقة غير عادلة وغير شريفة وغير نزيهة على الإطلاق. لكنها، أيضاً الدرس الذي لم نحسن التعلم منه كما يجب فلا معنى للنظر إلى الوراء، يقول محمود درويش، إلا لمعرفة أين نحن الآن؟ لمحاولة تجاوز سؤال البقاء إلى سؤال الوجود الحر الذي تحقق فيه الذات حرية محاكمة ذاتها. وذكرى النكبة في كل عام منذ ستين عاماً، هي تجربة فريدة ومريرة في استعادة ذكرى أمكنة يتقلص عدد من يعرفها كل عام، ويزداد عدد من لا يعرفها فيعاد إنتاج اللوعة والأم ويجري توريثهما جيلاً بعد جيل. ينقسم الفلسطيني في قراءته لتاريخه بين روايتين: الأولى تتبنى سرد تاريخنا بمفردات الهزيمة وتميل الثانية إلى السرد بمفردات التضحية والبطولة (ترجمت الروايتين إلى اتجاهين أساسيين في الفكر والممارسة السياسية الفلسطينية منذ تاريخ النكبة: اتجاه يميل نحو التجريبية المفرطة واتجاه آخر يميل إلى العدمية المطلقة). وصورة النكبة في وعي الأجيال الفلسطينية ما بعد وقوعها، غامضة وتجريدية وفلسطين بعيدة مبهمة، بينما النكبة في وعي معاصريها جرح ينزف حتى الموت وتجربة معاشة حد الألم "لحظة خاطفة مليئة بالعنف والرعب والخديعة والتواطؤ" وفلسطين لا تحمل مضامين سياسية أو تجريدات نظرية، بل هي شجرة برتقال، وحفلة سمر وحبة رمل أو سنبلة قمح أو هي تفاصيل حياة عادية لأناس عاديين جداً. هذا الانشطار حول الرواية التاريخية وحول معنى النكبة وتخيل فلسطين أورث المسألة الوطنية بعضاً من تعقيداتها كلما طال أمد حلها أكثر. (6)رغم كل شيء، فالنكبة ليست من فعل الطبيعة، بقدر ما كانت حدثاً أنتجته عوامل وتضافرت على خلقه حيثيات وإرادات. ومن بين كل العوامل، يسقط البعض مسؤولية الفلسطيني عما آل إليه وضعه، ومن بين كل الأخطاء التي ارتكبها الفلسطيني، رهانه الذي لم يكن في محله وتصديقه للشعارات الطنانة، يقول شفيق الحوت "لكن يافا، شأن كل مدن فلسطين وقراها، وقعت في خطيئة تصديق الإعلام الرسمي العربي والفلسطيني، فبالغت بآمالها المعلقة على القادمين من خارج فلسطين". ارتبطت النكبة في وعي معظم معاصريها بنقص السلاح في أيديهم، وبفساده في أيدي الجيوش العربية، وبكثرته في أيدي العصابات الصهيونية. حتى بات لدينا ولع بالسلاح لا تبرره مقتضيات التعامل مع الواقع ولا مأثورات الأجداد ممتشقي السيوف والخناجر كدليل على الأنفة والكبرياء والرجولة، إنها موازنة نفسية في المقام الأول. الاغتصاب وقع في غياب السلاح، والانتقام لا يتحقق إلا بوجوده، معادلة برغم صحتها النظرية المجردة غير أنها في السياق الفلسطيني أورثتنا المحن وضياع الفرص وتمكين العدو. يقول حسن خضر أن الفلاح الفلسطيني لم يكن يأبه بالسلاح، وليس في مجازات فحولة الفلاحين ما يرفع السلاح فوق المحاريث، أو فنون توليد الماشية. وأن ما دفعهم إلى بيع ذهب النساء، وجمع الأموال لشرائه لم يكن سوى خوف ينهض من قاع قلوبهم، ورجفة تسري من بدن الأرض إلى أبدانهم. (7)أجاد الإسرائيليون لعب دور الضحية وتفننوا في إعادة إنتاج مأساتهم واستخدموها أداة فعالة في إثبات شرعية ليست لهم، بينما يخجل الفلسطيني من صورة الضحية، فيصرخ شاعرهم محمود درويش "لتذهب تلك الصورة إلى الجحيم". النتيجة كانت التباس المواقع في ذهنية الرأي العام العالمي: ضحية في وسائل الإعلام والدعاية تمارس في الواقع أبشع جرائم العصر "ضحية مدججة بالسلاح النووي"، وصورة "إرهابي" مقنع، أو فدائي ملفع بكوفية تظهر غضب العينين يتعرض لمذبحة تلو الأخرى، فيريح ضمير العالم من وجعه ويكتفي بالبطانيات والمعلبات لتنظيف الضمير الموجوع. ثم أمعنا –بقصد وبدون قصد- في تشويه الصورة، بمساعدة وسائل إعلام خبيثة، فتارة نظهر كمتشردين باحثين عن لقمة خبز أو فرصة عمل أو كباكين على أطلال بيوت مهدمة، وتارة أخرى نصدر إلى شاشات التلفزة ما يعين العالم على إسدال الستارة على جريمة القرن العشرين. في النكبة ووقعِها في الذاكرة وقراءتها الانفعالية ما يفسر هذا الالتباس: فالضحية التي تتعرض للاغتصاب تخجل من عارها، وقد أطلقنا تعبير الاغتصاب على حدث سياسي مخطط جداً وهادف جداً فحُلنا بذلك بينه وبين قدرتنا على مجابهته بفعالية. وعوضاً عن ذلك، اجتاحتنا رغبة الانتقام ورد الاعتبار فبالغنا بالقوة التي نملكها ولم نحسن توظيفها فما أسرع ما توالت الخيبات. وإذا كان لنا أن نعيد النكبة إلى شرطها السياسي التاريخي، فإن علينا أن نكف عن عقلية الضحية التي تطارد جلادها لا لكي تحاكمه وتقتص منه بل لتنافسه على مكانته. (8)استخلص قسطنطين زريق بُعيد النكبة مباشرة بعض وجوهها: من ذلك الانتكاس المعنوي، التهرب من مجابهة الخطر، الشك بالنفس والقادة وفي استحقاقنا لمسمى أمة/شعب، الاستهتار بقوة العدو (لا أحد يصدق أننا انتصرنا على العدوان وليس على إسرائيل) والانخداع بقوتنا (عنجهية الخطبة، استيهام القوة، ..)، وأخيراً فشلنا في فهم الواقع (وفهمنا لطبيعة عدونا ولطبيعة الصراع معه،..). واقترح زريق ثلاثة ديناميات لحفز العمل على تجاوز آثار النكبة: تقوية إحساسنا بالخطر الداهم والمحدق وعدم الاستهتار به، وتعزيز المشاركة الشعبية (تجاوز فكرة البطل الفرد)، وأخيراً إعمال العقلانية الثورية وتحديداً في إمكانية وضرورة التضحية ببعض المصالح لدرء الخطر الأكبر في التعامل مع الواقع العالمي بعد فهمه "فالعقل في حقيقة الواقع, فاعل ثوري, بل لعله أعظم الفواعل الثورية في الحياة الإنسانية وفي تاريخ الشعوب. إنه يثور على الخطأ والضلال وعلى الخداع والانخداع, فلا يرتضيهما ولا يهدأ ويستقر إلا إذا أصاب الحقيقة ونعم بها". وبيّن زريق أن الانقسام من بين أكثر الأشياء التي تضعف الروح النضالية، وخصوصاً في غياب مصارحة الذات والجرأة في نقدها. بدوره أكد ياسين الحافظ على ما ذهب إليه زريق في أن الافتقار إلى الوعي المطابق للواقع وللكون (أي العقل الثوري) هو من بين الأسباب الفعلية للنكبة وعدم القدرة على تجاوز أثارها. ومع تعدد رهاناتهم وتخبط مرجعياتهم الأيديولوجية مال الفلسطينيون دوماً إلى الحلول الجذرية تارة والحلول التجريبية تارة أخرى متجاوزين في غالب الأحيان الحلول الواقعية. (9) نعيش، ومنذ عام 48 ما يشبه النكبة المستمرة، باعتبار أن جوهر النكبة هو اغتصاب الأرض، وتقويض المجتمع، والحيلولة دون قيام كيانية سياسية. ومنذ ذلك التاريخ، لم نصل إلى ما يشبه الاعتراف الواعي بأننا نتحمل قسطاً من مسؤولية ما حدث لنا وتحديداً في حقلي السياسة والثقافة، ونصر على استخدام تعبير النكبة بما تحمله من دلالات قدرية وجبرية. ولو كنا فعلنا مرة لما كررنا ذات الأخطاء. إلى ذلك، ورغم وعينا بحالة التضاد والصراع بين مشروعنا والمشروع الصهيوني، نصر على ألا نتعلم من أعدائنا ونوقف فعلنا وسلوكنا حصراً على ردات الفعل الميكانيكية. تُرجم وعد بلفور البريطاني إلى نكبة أولى للفلسطينيين، بينما نشهد هذه الأيام ترجمة وعد بوش الأميركي فيما يشبه نكبة ثانية (أي إنجاز أهداف المرحلة الثانية من المشروع الصهيوني بلغة شارون: ضم وتهويد أجزاء واسعة من الضفة الغربية ومن ضمنها القدس والفوز باعتراف العالم ودعمه)، ولا يحرك الفلسطيني ساكناً في مواجهة هذا الأمر سوى الإمعان في انقسامه واستهتاره بساحة الرأي العام العالمي، وباستيهام القوة وعدم القدرة على فهم ما يجري حقاً. ولازال سلوكنا يتسم بردات الفعل الموسمية وذات الطابع الاحتفالي أو الاحتجاج التظاهري. (10) أتيحت للفلسطينيين ثلاثة فرص لبناء مجتمع جديد، لعبت الحركة الصهيونية الدور الأبرز في تفويتها والقضاء المبرم على إمكانية تطورها، بالإضافة إلى عوامل أخرى، من بينها سلوك الفلسطينيين أنفسهم:الفرصة الأولى: الانتقال السريع من مجتمع فلاحي بسيط إلى مجتمع حديث يشهد نمواً في توسيع المدن، وظهور مؤسسات التعليم والصحافة والأنشطة الثقافية وظهور طبقة عمالية وشريحة من الفلاحين وانبثاق أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات. حدث ذلك في الفترة ما بين الحربين العالميتين. أجهض قيام إسرائيل هذه الفرصة بالاقتلاع والتشريد: قطع الطريق على نمو المجتمع الفلسطيني وتواصله كمجتمع مدني موحد، كما يقول عزمي بشارة، تحكمه علاقات التبادل الاقتصادي والثقافي بين أجزائه المختلفة وتبرز تطلعاته السياسية الخاصة به، تدمير المدينة الفلسطينية/حامل مشروع الحداثة، دخول الجماعات الفلسطينية بعد النكبة في فضاءات حقول سياسية مختلفة تجمعها رؤية تتراوح بين النظرة الحذرة تجاه تعبيرات الهوية والكيانية الفلسطينية إلى الرؤية العدوانية تجاه هذه التعبيرات. في جميع هذه الحقول، كما يؤكد جميل هلال، جرى إنعاش وتقوية العشائرية والزعامات التقليدية والانتماءات المحلية، أي انتهاج سياسة تستهدف تقطيع الهوية الفلسطينية. الفرصة الثانية: في أعقاب حرب حزيران حدث اللقاء التاريخي بين الفلسطينيين على أرض فلسطين الانتدابية، أو ما يسميه البعض بالتوحيد القسري. وإذا كانت نتائج الحرب شكلت نهاية محزنة للمد القومي الجارف، فإنها فتحت أفقاً جديداً للفلسطينيين. فقد أعاد الفلسطينيون تنظيم أنفسهم كمجتمع، فتواصلوا فيما بينهم وأبدعوا تعبيرات جديدة للوطنية الفلسطينية. تعرضت هذه الفرصة للإجهاض ليس فقط على يد إسرائيل وإنما بمساهمة واضحة من الفلسطينيين: فعدا عن الاستيطان/نهب الأراضي وتقطيعها وتقييد حرية توسع الفلسطينيين وترسيخ وضعية الإلحاق والتبعية للاقتصاد الفلسطيني الهش والضعيف، جرى توليد نخب وشرائح منتفعة من بقاء الاحتلال وقطع الطريق على نمو مجتمع فلسطيني وانتهاج سياسة الفصل والتقييد المقنن (بدءاً من تصاريح الممغنط وانتهاء بقيام كيان سياسي منقوص السيادة ومتحكم في مداخله ومخارجه وحركته الداخلية) الفرصة الثالثة: شكل قيام السلطة الفلسطينية على جزء من إقليمها فرصة جديدة، حتى وإن كانت مقلصة ومحدودة، لإعادة ترميم وبناء ملامح مجتمع فلسطيني وكيانية سياسية تحظى بعناية المجتمع الدولي ودعمه على طريق تكريسها كمشروع دولاني. أسهم هذه المرة الفلسطينيون بدور أكبر في إجهاض هذه الفرصة، بينما كان العامل الإسرائيلي حاضراً ومحرضاً ومحركا. ((إذا كانت الفرصة الأولى أجهضت بالترانسفير القسري، والفرصة الثانية بالترانسفير الرمزي، فإن هذه الفرصة تجهض الآن بالترانسفير الطوعي أي بتحريك محرضات التقويض الذاتي): إفشال السلطة الفلسطينية كمشروع دولاني (تحويلها إلى سلطة اعتمادية ودائمة)، تقطيع أواصر وروابط الفلسطينيين بالفصل والعزل وتقييد الحركة والتحكم فيها، تشغيل ديناميات التفكك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي، خلق وقائع مادية على الأرض تحول دون قيام كيانية سياسية متواصلة. في الختام، نقول أن الفلسطيني واجه نكبته الأولى بكثير من البسالة والتضحية، كما واجهها بإنعاش ذاكرته وإبقاءها حية على الدوام، وإذا كان ارتكب الكثير من الأخطاء، غير أن فشله في إزالة أثار النكبة لا يعود إلى هذه الأخطاء وحدها بالتأكيد. لا تحتاج عملية إعادة بناء الوعي الوطني إلى تجاوز حالة الانقسام الراهنة فحسب، فذلك شرط ضروري لكنه غير كاف، وإنما إلى إتباع نهج مختلف في الفكر والممارسة السياسية: انتهاج خط العقلانية الثورية بدون تجريبية مفرطة أو عدمية مطلقة، واستناداً إلى هذا المنهج يجب محاكمة سلوكنا في المفاوضات كما في المقاومة كما في إدارة الشأن اليومي وبناء العلاقات الخارجية. إن أفضل ما يمكن أن يقوم به الفلسطيني في ذكرى نكبته الثانية والستين يتمثل في إعادة صياغة روايته وتعديل سلوكه على النحو الذي يمكنه من الدفاع عن قضيته في عالم شديد التعقيد لا يأبه للدموع كثيراً كما لا تخيفه الخطب الرنانة الجوفاء.