لا يمكن لأمة تحترم نفسها أن تقبل على نفسها السماح لخصومها بالتمادي في إهانتها بطريقة مكشوفة رعناء مذلة بحيث يُجبرالمتلقي للصفعة أن يستعذبها وأن يثني على الكف الصافعة وأن يتجرع الإذلال بهدوء. أقول هذا تعليقا على تكليف رجلين بمهمتين متكاملتين في بلادنا. والرجلان معروفان بمواقفهما العدائية من قضايا العرب وانحيازهما للجانب الإسرائيلي - الأمريكي دون الاهتمام بمشاعر الشعوب وقياداتها الحقيقية لا قيادتها المفروضة عليها. والرجلان هما توني بلير مندوب اللجنة الرباعية إلى فلسطين المحتلة وسلطتها، وتيري رود لارسن المكلف بمراقبة تنفيذ القرار 1559 (2004) المتعلق بانسحاب القوات الأجنبية من لبنان (المقصود سورية) ونزع سلاح الميليشيات (المقصود حزب الله) والتأكد من عقد انتخابات حرة ونزيهة دون تدخل خارجي (المقصود سورية أيضا) وبسط سيادة الدولة على كافة الأراضي اللبنانية. لقد جرت العادة عند تعيين ممثل خاص للأمين العام للتعامل مع أطراف أزمة ما أن يتوفر فيه نوع من الحيادية الرفيعة والمهنية العالية والخبرة الواسعة بحيث يصبح مقبولا لدى طرفي النزاع دونما جدال. وقد حدث أكثر من مرة أن يقوم أحد الأطراف برفض التعامل مع الممثل الخاص لتحيزه المعروف سلفا أو لإظهاره قدرا من التحيز بعد مباشرة عمله.فإسرائيل مثلا أحجبت عن التعامل مع شنمايا غاريخان ممثل الأمين العام لدى منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية لاعتقادها بأنه منحاز للطرف الفلسطيني وتم إنهاء عمله من المنطقة. وضغطت إسرائيل على الأمين العام كوفي عنان كي لا يجدد ولاية بيتر هانسن المفوض العام للأنروا لاتهامه بالتحيز للفلسطينيين، وهكذا كان. والسودان رفض التعاطي مع ممثل الأمين العام السابق كوفي عنان المدعو يان برونك بسبب عنصريته وانحيازه المكشوف ضد السودان فاضطر إلى الاستقالة. وجبهة البوليزاريو، التي تعتبر الطرف الأساسي الثاني لمشكلة الصحراء الغربية، أحجمت عن التعامل مع المبعوث الخاص للأمين العام فان فالسوم عندما أحست بانحيازه للمغرب فأنهيت مهمته، بينما طلبت المغرب من فرانك رودي الأمريكي مغادرة البلاد فورا عندما شعرت أنه منحاز للجانب الصحرواي.بعض المبعوثين تستفيق ضمائرهم عندما يشعرون أن هناك أجندة معينة يجري تنفيذها تحت أسمائهم فينتصرون لضمائرهم ويستقيلون من المهمة التي عينوا لتنفيذها مثلما استقال دينيس هاليدي ثم فان سبونيك من مسؤولية برنامج ’النفط مقابل الغذاء’ في العراق عندما أحسا أن هذا البرنامج غطاء لتجويع الشعب العراقي وتدمير بنيانه الاجتماعي وليس لمعاقبة النظام السلطوي القاهر. واستقال جيمس ولفنسون من مهمته في غزة ممثلا للجنة الرباعية عندما ذهب صراخه ضد الحصار الظالم هباء واستنتج أن المطلوب هو إبقاء الحصار على غزة. وتخلى ألفارو دي سوتو عن موقعه ممثلا للأمين العام في غزة عندما أحس أن المطلوب منه تنفيذ التعليمات الأمريكية بعدم التعامل مع حركة حماس بعد الانتخابات التي فازت فيها بأغلبية واضحة، وقال في تقريره الأخير إنه شعر بأنه موظف لدى الإدارة الأمريكية لا المنظمة الدولية.ولذلك أستغرب الإبقاء على هذين المندوبين رغم معرفة المسؤولين في بيروت ورام الله بمواقفهما من القضايا التي يمثلونها.توني بلير ممثلا للرباعيةإن قبول سلطة رام الله تعيين توني بلير ممثلا للجنة الرباعية في الأراضي الفلسطينية بعد استقالة ولفنسون، رئيس البنك الدولي سابقا، وألفارو دي سوتو، يعتبر إهانة للشعب العربي عامة وللشعب العراقي خاصة ولكل أنصار الحرية والعدالة والاستقلال في كل مكان وكذلك إهانة لملايين البريطانيين الذين تظاهروا ضد الحرب وها هم يحاولون تقديمه لمحكمة جرائم الحرب بعد أن تأكد لهم أنه دخل الحرب تضامنا مع صديقه بوش، لا لأن العراق لديه أسلحة دمار شامل أو لأن له علاقة بالهجوم الإرهابي على نيويورك والبنتاغون صبيحة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، بل لأن هناك مخططا لتدمير بلد عربي ناهض بكل المقاييس قد يشكل في المستقبل، إذا ما تخلص من الدكتاتوية البغيضة، معادلا قويا لإسرائيل. لقد كذب على الشعب البريطاني وأعتقد أن البريطانيين لن يغفروا له إن عاجلا أو آجلا.أما أن يقوم بوش بإعادة تدويره ورميه على المنطقة ممثلا للجنة الرباعية المركبة على مقاس بوش بدلا من أن يُرمى به في السجون البريطانية أو في مزبلة التاريخ، فتلك لعمري مهانة أيما مهانه لا يقبل بها صاحب ضمير حيّ في هذا العالم المليء بأصحاب الضمائر المصنوعة من الكاوتشوك أو جلود البشر.في الهجوم الدموي على جنوب لبنان في صائفة 2006، وكان آنذاك رئيس وزراء بريطانيا، لاذ بالصمت وكأن الأمر لا يعنيه أو ظل يردد كالببغاء مقولات كوندوليسا رايس الممقوتة حول إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين أولا قبل توقف العمليات المسلحة. ثم جاء الهجوم على غزة في نهاية عام 2008 وبداية 2009، وكان هذه المرة ممثلا للجنة الرباعية لعملية السلام، ومرة أخرى لاذ بالصمت ودفن رأسه كالنعامة في الرمال واختبأ في جحر صغير طوال أيام الحرب ثم أطل برأسه بعد الحرب ليتحدث عن عملية السلام واستئناف المفاوضات. أية إهانة أكبر من هذه؟ مشكلة الأمة كلها مع هذه السلطة، التي ساومت على كرامة الوطن والمواطن، واختصرت جل أهدافها في البقاء على قمة سلطة مسخ أساءت للعباد وفرطت في البلاد ولم يعد يعنيها معاناة الفلسطينيين لا في غزة ولا في الضفة الغربية ولا ما يجري من تهويد منهجي للقدس. مثل زميله منتظر الزيدي الذي ودع بوش بحذاء من العيار الثقيل، وجه علي حسن حمدان أبلغ رسالة من الشعب العربي الشريف عندما زار بلير المسجد الإبراهيمي في 21 تشرين الأول (أكتوبر)الماضي باصقا عليه ومعلنا أنه غير مرحب به وأنه إرهابي وحفيد بلفور. لقد آن الأوان أن تعلن سلطة سلام فياض أن توني بلير ’شخص غير مرحب به’ ليحزم حقائبه ويرحل من فلسطين المكبلة بقيود وضعها هو وصديقه بوش تحت اسم خارطة الطريق لتسهيل الاستيطان والقضاء على آخر نفس للمقاومة الفلسطينية تحت يافطة قيام الدولة العتيدة. آن له أن يرحل غير مأسوف عليه ليواجه غضب الشارع البريطاني الذي خدعه وورطه في حرب مبنية على الأكاذيب أدت إلى وقوع أكثر من مليون عراقي ضحايا في تلك الحرب ’غير الشرعية’.تيري رود لارسن والقرار 1559المصيبة أعظم في قيام كوفي عنان بتعيين تيري رود لارسن ممثلا للأمين العام لتنفيذ القرار 1559 اللئيم، الذي صاغته فرنسا بالتعاون مع طرف واحد من لبنان لا يمثل كافة اللبنانيين كما أثبتت التطورات اللاحقة.لارسن النرويجي كان أحد الوسطاء بين الفلسطينيين والإسرائيليين في المفاوضات السرية التي انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو الكارثية عام 1993. عينه الأمين العام الأسبق بطرس غالي ممثلا لدى السلطة الفلسطينية بين عامي 1994 و 1996. ثم عاد كوفي عنان وعينه 1999 منسقا لعملية السلام في غزة. وفي تلك الفترة(2001-2004) عينت زوجته منى يول سفيرة لبلادها في إسرائيل ومنح الإثنان جائزة من مركز شمعون بيريس للدراسات قيمتها 100,000 دولار. بعد تصريحه اليتيم عام 2002 حول ما رأى في مخيم جنين بأنه ’أقرب إلى الزلزال’ قامت إسرائيل بمهاجمته بشدة والكشف عن تلقيه الجائزة المالية فما كان منه إلا أن انصاع بعدها للإملاءات الإسرائيلية وأصبح منحازا لإسرائيل بشكل فاضح مما اضطر السلطة الفلسطينية أن تقاطعه وتعلن أنه شخص غير مرغوب فيه عام 2004 لكثرة تحامله في بياناته المتكررة على الجانب الفلسطيني وكأنهم هم المعتدون الذين يحتلون إسرائيل، كما هاجمه ناصر القدوة، السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، مرارا أمام المجتمع الدولي واتهمه بالتحيز والتحامل على ضحايا الاحتلال، فاضطر لارسن أخيرا أن يحمل حقائبه ويرحل. عُيّن عندئذ رئيسا للأكاديمية الدولية للسلام لكن كوفي عنان وتحت ضغوط أمريكية قام بإعادة الاعتبار له وقذفه إلى الساحة اللبنانية في آب (أغسطس) 2006 لتنفيذ القرار 1559 مستغلا حالة الانقسام الخطيرة في الساحة اللبنانية آنذاك. والشخص معروف بانحيازه المطلق لأحد الإئتلافين في لبنان دون الآخر ولحد الآن لم تسمح له سورية بالدخول في أراضيها. فــفي تقريره لمجلس الأمن اتهـــم لارسن حـــزب الله بتقديــم مساعدات عسكرية لحركة حماس في غزة كما اتهم الحزب بالتخطيط لقيام عمليات عسكرية في مصر. ثم دعا حزب الله في نفس التقرير إلى التحول إلى حزب سياسي فقط ليكون مؤهلا للعب دور في الحياة السياسية للبنان. ومما جاء في التقريـــر: ’إن هناك معلــومات تثير القلق أن حزب الله المدعوم من إيران، قد تلقى أسلحـــة متطورة تكنولوجيــا من إيران مما يشكل خرقا واضحا للسيادة اللبنانية.’ المفروض أن مهمة لارسن محصـــورة في تنفيذ القــرار 1559 لا بتقديـــم غطاء لإســـرائيل لتوسيع نشاطاتها ضد حـــزب الله وحماس وسوريــة في حــين يتغافل بشكل مقصود عن انتهاكات إسرائيل للمجال الجوي اللبناني والسوري مرارا وتكرارا. باختصــار، ما دامت بنود القــرار 1559 قد نفذت في غالبيتــها، كالانسحاب السوري والانتخابات الحرة، وما دام لبنان قد تعافى أو يكاد من الانقســام الخطــير الذي شهــده أيام لحـــود- السنيــورة، فما المبــرر من بقاء ممثل خاص للأمين العام لتنفيذ قرار نفذ في غالبيته. أما الجــزء المتعلق بنــزع سلاح حزب الله فالغالبيــة الساحقــة من اللبنانيــين تعارض هذا الإجراء والذي لا يمكن أن ينفذ إلا ضمن توافق لبناني وغياب التهديد الإسرائيلي تماما وهمــا شرطان لا يبدو أنهما سيتحققــان على المدى المنظور. ويؤكد هذه المقولة وزير الخارجية اللبناني علي الشامي، الذي قــال ’قد ألغي القرارعمليا’ وكذلك تصريح السيد وليد جنبلاط في الثالث من شهر كانــون الثاني (يناير) الماضي عندما قال: ’من أجل استقرار لبنان الداخلي، يمكن وضــع القرار 1559 على الرف وعلى الأحزاب اللبنانيــة أن تعمل على تجاوز خلافاتها بالحوار الذي يرعاه الرئيــس ميشيل سليمان’. فهل بقي مبررا لإبقاء تيري رود لارسن في منصبه هذا؟إذا كانــت الأمــة غير قــادرة علــى الانتصــار في معاركهــا الكبيــرة، أليس باستطاعتها حسم معركة صغيــرة كهذه تعيد شيئا من هيبــة مفقــودة واحترام تبخر منذ زمن وكرامــة جريحــة يتألم لها المواطنون ’الغلابى’ ويتمنــون أن يروا ولو لمرة واحدة ’أردوغان’ واحدا ينتصــر لضميره ويضــرب الطاولــة بيديــه ويخــرج من الاجتمــاع بكل عنفوان.’ أستاذ جامعي وكاتب مقيم في نيويورك