الحرب التي غيّرت العالم (11)..حسن خضر

الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 10:58 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الحرب التي غيّرت العالم (11)..حسن خضر



لا يحتمل اعتراف إسرائيل بدولة أرض الصومال أكثر من معنى واحد، هو ممارسة دور القوّة الإقليمية. القوّة التي تهيمن على إقليمها، أو تقتسم الهيمنة مع آخرين. وهذا ما يحدث في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي.

وعلى الرغم من وجود تأويلات كثيرة، إلا أن هذا النوع من الممارسة، وفي هذا التوقيت بالذات، يبدو نوعاً من السباق مع الزمن، قبل تدهور الحالتين الصحية والعقلية لدونالد ترامب، أو قبل الانتخابات النصفية في أواخر العام 2026، والتي قد تكون نتيجتها، في حال فوز الديمقراطيين بأغلبية في مجلسَي الشيوخ والكونغرس، عزله من الرئاسة.
لن يجود الزمان برئيس من طراز ترامب بالنسبة للإسرائيليين. أما كيف ولماذا فهذا ليس موضوعنا الآن. كل ما في الأمر أن الكلام عن خلافه مع نتنياهو، مجرد ذر للرماد في العيون.
توجد دولة أرض الصومال في منطقة القرن الأفريقي، التي تضم جيبوتي، وأثيوبيا، وإريتريا، والصومال. ولهذه المنطقة، التي تشكل ملتقى للطرق بين قارّات، أهمية إستراتيجية هائلة على مستويات عسكرية واقتصادية وسياسية بالنسبة للشرق الأوسط والعالم. وفي حال تأمينها يمكن إعادة رسم الخرائط، والتحكم بالممرات البحرية من باب المندب إلى خليج عدن، وصولاً إلى البحر الأحمر، وشرق المتوسط.
وعلى الرغم من التركيز على تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة (وهذا ما لا ينبغي استبعاده، ليس كلهم بالضرورة)، إلا أن الفائدة الإستراتيجية بالنسبة للإسرائيليين تتجاوز مسألة التهجير. ففي مطار دولة أرض الصومال أطول مدرج للطائرات في أفريقيا، وفيها ميناء بربرة، ولكليهما أهمية إستراتيجية في حال وجود قواعد عسكرية للقوة الإسرائيلية خارج حدودها، وفي حال وجود قوات حليفة، أيضاً.
وبما أن الرد «الحاسم» من جانب الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، لم يتأخر، وأدان الخطوة الإسرائيلية بعبارات واضحة. فإن في سرعة الرد، ووضوح العبارة، ما يستدعي التفكير والتدبير. المتداول في تفسير سرعة الرد، ووضوح العبارة: رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. وهذه سلعة مفيدة سياسياً، عائدها مضمون، وذات قابلية عالية للاستهلاك. وقد تكون صحيحة جزئياً على الأقل. ومع ذلك، ليس من الحكمة أخذها على علّاتها.
يمكن التفكير في أكثر من مبرر للرد السريع، والعبارة الواضحة. ولا نستبعد منها «إيماءة» أميركية (ليست من ترامب بالضرورة) تدل على عدم حماسة الأميركيين، أو بعضهم على الأقل. وهذا، في ذاته يكفي، في الوقت الحاضر، مع بقاء علامة استفهام كبيرة فوق الموقف الأميركي. فالقيمة المادية والإستراتيجية لأرض الصومال تساوى تريليونات في الحسابات الترامبية، ناهيك عن الفائدة الإعلامية والدعائية من التحاق «دولة» جديدة بحلف إبراهيم. ثمة الموقف الحاسم للاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والصين ودول أوروبية بطبيعة الحال. وهذا، بدوره يحرّض «العرب» و»المسلمين» على قدر محسوب من الحسم والوضوح.
ومع هذا كله في البال، ثمة مسألة لن تحتل مساحة تُذكر في وسائل الإعلام العربية، على الأرجح، وهي إحساس «العرب» و»المسلمين» بالذعر، لأن الخطوة الإسرائيلية فضائحية تماماً، ومحرجة للكثيرين في الحواضر والإبراهيميات. ففي زمن «دولة لبنان الحر»، التي أعلنها سعد حداد في 1979، لم يخطر على بال أحد، حتى على بال الإسرائيليين أنفسهم، أخذها على محمل الجد.
ومع ذلك، في زمن تفكيك وإعادة تشكيل الشرق الأوسط، قد تؤدي الحروب الأهلية، في ليبيا والعراق وسورية ولبنان واليمن والسودان، إضافة إلى دول أفريقية كثيرة، إلى ولادة «دول» أو أقاليم جديدة، إذا شعرت القوّة الإسرائيلية أن في الانقسام ما يخدم مصلحة إستراتيجية. وإذا شعر ترامب أن ثمة فائدة مادية من نوع ما.
ثمة مسألة لا تقل أهمية عن تداعيات الفضيحة، والإحراج، وتتمثل في مخاطر انهيار ضوابط وتقاليد دولية تضمن بقاء الدول الصغيرة، ووحدة أراضيها، فعندما غامر صدام حسين باحتلال الكويت جاء الأميركيون بنصف مليون من جنودهم لإرغامه على الخروج. ولكن التعليق السمج لدونالد ترامب، عن الجولان التي باعها للإسرائيليين، وهي تساوي تريليونات يضع علامة استفهام كبيرة فوق القانون والشرعية الدولية. فالسماح بتقسيم الصومال ينطوي على مخاطر اختفاء دول قائمة، وولادة غيرها على أنقاضها. وفي أمر كهذا ما يمس أكثر من عصب نافر، في بلدان مختلفة.
تمثّل الدولة الإسرائيلية القاسم المشترك، الذي تلتقي عنده كل هذه المخاطر والاحتمالات. وهذا بدوره ينفتح على أسئلة كثيرة: هل تملك إسرائيل مؤهلات القوّة الإقليمية القادرة على رسم الخرائط وتشكيل الدول في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي؟ لدىّ الكثير من الشكوك في هذا السياق.
سبق وتكلمنا في معالجة الثلاثاء الماضي عن انقلاب وانهيار الرواية التقليدية التي اعتمدتها الدولة الإسرائيلية في تفسير حروبها، ومشاكلها الوجودية مع الفلسطينيين والعرب. وإذا كان في حادثة الاعتراف بدولة أرض الصومال ما يضيف وسيلة إيضاح جديدة للتدليل على أمر كهذا، فإن فيها ما يفتح أفقاً جديداً للتفكير في معنى ومكوّنات الصراع العربي ـ الإسرائيلي بعيداً عن رافعتَي «العروبة» و»الإسلام».
وقد استُخدمت كلتاهما، منذ بداية الصراع في فلسطين وعليها، لتفسير عداء «العرب» و»المسلمين» لإسرائيل، وانحيازهم للفلسطينيين. في الأفق الجديد ما يحرّض على التفكير في المصالح القومية العليا للحواضر العربية، (استقلالها، وسيادتها على إقليمها السياسي، ووحدة أراضيها) وهي أكثر أهمية من رافعتَي العروبة والدين، وقد صارت عرضة للتهديد من جانب القوّة الإسرائيلية الصاعدة. وهذا ما سنستفيض في الكلام عنه، في معالجات لاحقة. فاصل ونواصل.