الواقع الداخلي لحركة “حماس” وإرادة التغيير ..مصطفى إبراهيم

الإثنين 29 ديسمبر 2025 12:53 م / بتوقيت القدس +2GMT
الواقع الداخلي لحركة “حماس” وإرادة التغيير ..مصطفى إبراهيم



تحاول “حماس”، من جهة، إعادة فرض حضورها الأمني والإداري عبر فتح مراكز الشرطة، ونشر عناصر أمنية، وتنظيم الحياة العامّة، لكنّها من جهة أخرى عاجزة عن تقديم أي تحسّن ملموس في حياة الناس. هذا التناقض يُنتج فجوة متزايدة بين التنظيم والشارع، حيث تُقرأ إجراءات الحركة بوصفها سعياً لتثبيت السيطرة، لا لحماية المجتمع.


تعيش حركة “حماس” واحدة من أكثر مراحلها حساسية وتعقيداً منذ تأسيسها، مرحلة تتداخل فيها الخسارة العسكرية مع الإنهاك التنظيمي، والارتباك السياسي مع قلق وجودي على مستقبلها ودورها. فالحرب لم تُضعف البنية العسكرية فحسب، بل ضربت منظومة القيادة واتّخاذ القرار، ودفعتها إلى مواجهة أسئلة لم تعد مؤجّلة: ماذا بعد الحرب؟ ومن يحكم غزّة؟ وبأيّ كلفة؟
فقدت “حماس” خلال الحرب غالبية أعضاء مكتبها السياسي، إلى جانب قيادات اللجنة الإدارية التي أدارت القطاع لسنوات، ما أحدث فراغاً قيادياً عميقاً لم يكن من السهل احتواؤه، ولم يتبقَّ من قيادة غزّة سوى عدد محدود من الشخصيّات المركزية، أبرزهم خليل الحية، وغازي حمد، ونزار عوض الله، وجميعهم موجودون خارج القطاع، الأمر الذي عمّق فجوة القرار بين من يدير التنظيم، ومن يعيش تداعيات الحكم اليومية في الداخل.
هذا الفراغ فجّر خلافات كانت كامنة بين قيادة الخارج وقيادة غزّة، وخرجت إلى العلن مع تصاعد الخطاب الإعلامي والتهم المتبادلة، حول “الخطّ السياسي” وحدود البراغماتية. غير أن هذه الخلافات لا تُفهم فقط بوصفها صراعاً على القيادة، بل صراع على تعريف المرحلة المقبلة: مرحلة حكم؟ أم مرحلة نجاة تنظيمية؟ أم مجرّد إدارة أزمة طويلة الأمد؟
في محاولة لمنع الانهيار التنظيمي، شكّلت “حماس” ما يسمّى “المجلس القيادي” بعد اغتيال اسماعيل هنيّة ويحيى السنوار، بوصفه إطاراً انتقالياً حتى العام 2026، غير أن هذا المجلس، بطبيعته المؤقّتة، لم يُنتج قيادة فعلية بقدر ما عمل على إدارة التوازنات الداخلية ومنع الانقسام، وقد بدا واضحاً أنها في هذه المرحلة، لا تبحث عن قيادة تغيير، بل عن قيادة صمود.
في هذا السياق، يبرز التوجّه نحو انتخاب رئيس جديد للمكتب السياسي العامّ، ليس كاستحقاق تنظيمي تقليدي، بل كأداة لإدارة أزمة متعدّدة المستويات. فالانتخابات هنا ليست فقط محاولة لسدّ فراغ قيادي، بل وسيلة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، ومنع تفكّك الحركة في لحظة تاريخية حرجة. غير أن ما يُغفله الخطاب الداخلي للحركة، هو أن هذه الانتخابات تجري في ظلّ تحوّل عميق في المزاج الشعبي داخل غزّة. فالشارع الغزّي، الذي اعتاد قياس شرعية السلطة بقدرتها على “الصمود”، بات اليوم يقيسها بقدرتها على تأمين الحياة، ولم يعد سؤال “من يقود الحركة؟” مهماً، بقدر سؤال “من يحمي الناس من الجوع، والبرد، والمرض، والانهيار الكامل؟”.
ويشهد القطاع تحوّلاً جذرياً في العلاقة بين المجتمع والسلطة. فبعد شهور طويلة من الإبادة، والتجويع، والنزوح المتكرّر، وانهيار البنية التحتية، لم يعد المجتمع الغزّي في موقع “الحاضنة السياسية” لأيّ طرف، بل في موقع الضحيّة التي تبحث عن الحدّ الأدنى من الأمان والاستقرار.

الغالبية الساحقة من الناس اليوم تعيش على مساعدات إنسانية غير منتظمة، في ظلّ انهيار خدمات المياه والكهرباء والصحّة والتعليم. آلاف العائلات فقدت بيوتها، وأُجبرت على النزوح أكثر من مرّة، بينما بات الشتاء والمجاعة تهديداً يومياً. في هذا السياق، تبدو النقاشات حول الانتخابات والشرعية التنظيمية بعيدة عن أولويات الناس، بل أحياناً مستفزّة.
تحاول “حماس”، من جهة، إعادة فرض حضورها الأمني والإداري عبر فتح مراكز الشرطة، ونشر عناصر أمنية، وتنظيم الحياة العامّة، لكنّها من جهة أخرى عاجزة عن تقديم أي تحسّن ملموس في حياة الناس. هذا التناقض يُنتج فجوة متزايدة بين التنظيم والشارع، حيث تُقرأ إجراءات الحركة بوصفها سعياً لتثبيت السيطرة، لا لحماية المجتمع.
وفي ظلّ غياب بدائل سياسية حقيقية، لا يتحوّل هذا التململ الشعبي إلى احتجاج منظّم، بل إلى صمت ثقيل، ونفاد صبر، وتآكل بطيء للشرعية، وهذا أخطر على أيّ سلطة من الغضب العلني.
إلى جانب الاحتلال، تواجه “حماس” تهديداً داخلياً متصاعداً يتمثّل في العصابات المسلّحة التي دعمتها إسرائيل، والتي باتت تستنزف بنيتها الأمنية، وتخلق حالة من الفوضى، وفي مواجهة هذا التهديد، تلجأ إلى تشديد قبضتها الأمنية، وإلى الردع والتصفية، ليس فقط بدافع تثبيت الحكم، بل بدافع الخوف من فقدان السيطرة.
غير أن هذه المقاربة الأمنية، في ظلّ غياب أفق سياسي أو اجتماعي، تُعمّق القطيعة مع المجتمع، وتُحوّل الأمن من أداة حماية إلى رمز سلطة، ما يزيد من هشاشة العلاقة بين الحركة والناس.
من ناحية أخرى، استغلّت “حماس” الهدنة لإعادة ترتيب أجهزتها الإدارية، وفرض رقابة على الجمعيّات والمنظّمات الدولية، ومواصلة جباية الضرائب، حتى في ظلّ الحرب، غير أن هذه الإجراءات، في نظر شريحة واسعة من الغزّيين، لا تُقرأ بوصفها إدارة أزمة، بل إصرار على الحكم من دون قدرة على الإنقاذ، إذ إنها تحكم قطاعاً بلا موارد، بلا معابر، وبلا قدرة على إطلاق إعادة إعمار حقيقية، ما يحوّل السلطة إلى عبء إضافي على مجتمع يعيش على حافة الانهيار الكامل.
في هذا السياق، يبرز خالد مشعل كخيار يلبّي حاجة “حماس” إلى تقديم واجهة سياسية قابلة للتسويق عربياً ودولياً، وأقلّ التصاقاً بالمحور الإيراني. غير أن هذا الخيار، مهما حمل من براغماتية، لا يقدّم إجابة عن أسئلة الشارع الغزّي، ولا يخفّف من كلفة الحكم اليومية، بل يركّز على إدارة العلاقة مع الخارج أكثر من معالجة الداخل.
لا يمكن الفصل بين تماسك “حماس” التنظيمي وبين الكلفة الإنسانية الباهظة التي يدفعها المجتمع الغزّي. فالحركة، التي تُظهر قدرة لافتة على إدارة خلافاتها الداخلية عبر الانتخابات والتوافق والبراغماتية، تعجز في المقابل عن ترجمة هذه القدرة إلى سياسات تحمي الناس، أو تخفف عنهم أعباء الحرب والانهيار، وهي بذلك تنجح في إنقاذ التنظيم، لكنّها تفشل في إنقاذ المجتمع.
والانتخابات، مهما بدت كدليل على حيوية داخلية، ليست بريئة سياسياً. فهي تُستخدم اليوم كأداة لإعادة إنتاج الشرعية، وتأجيل مواجهة الأسئلة الصعبة، وتثبيت حكم الأمر الواقع، لا كمدخل لمراجعة التجربة أو تحمّل المسؤولية عن نتائجها، وبينما تُدار النقاشات داخل أطر الحركة حول القيادة والتمثيل، يواجه الشارع الغزّي الجوع والبرد والتشرّد، بلا أفق، وبلا شريك سياسي يشعر بثقل معاناته.
الأخطر أن “حماس”، وهي تدافع عن بقائها في السلطة، باتت تُحمّل المجتمع كلفة هذا البقاء، وتتعامل مع الصمود الشعبي كرصيد سياسي قابل للاستنزاف إلى ما لا نهاية. فبدلاً من الاعتراف بفشل نموذج الجمع بين “المقاومة” و”الحكم”، والاستجابة لتحوّل المزاج الشعبي، تُمعن في تثبيت السيطرة الأمنية، وكأن الشرعية تُنتزع بالقوّة لا تُبنى بالمسؤولية.
إن أخطر ما تواجهه غزّة اليوم، ليس فقط الاحتلال والدمار، بل استمرار إدارة الكارثة بذهنية تنظيمية ضيّقة، تُقدّم بقاء الحركة على حقّ الناس في الحياة، وفي هذا السياق، هي مطالَبة؛ أخلاقياً وسياسياً، بأن تختار بوضوح: إما أن تتحمّل مسؤولية الحكم بكلّ تبعاته الإنسانية والسياسية، وإما أن تفسح المجال لمسار وطني جديد لا يُدار على حساب دماء الناس وصبرهم.