من دفاتر النزوح وطهي الحصى… عامان من الدخان والجوع والخذلان ..المستشار د. أحمد يوسف

الخميس 11 ديسمبر 2025 01:56 م / بتوقيت القدس +2GMT
من دفاتر النزوح وطهي الحصى… عامان من الدخان والجوع والخذلان ..المستشار د. أحمد يوسف



لم تكن أيام النزوح مجرد انتقال من مكانٍ إلى آخر؛ بل كانت امتحانًا طويلًا في القدرة على الاحتمال، وجرحًا مفتوحًا في الذاكرة الجماعية لشعبٍ اعتاد الصبر، لكنه لم يعتد هذا القدر من القسوة.
عامان كاملان من الخيام الممزقة، ومن الانتظار المعلّق بين سماءٍ لا ترحم وأرضٍ تضيق بأهلها. عامان من “طهي الحصى”؛ لا طعامًا، بل كناية عن كل تلك الحيل التي ابتكرها الآباء والأمهات لإلهاء الأطفال عن الجوع، وعن اللهاث خلف أي شيء يوهمهم أن وجبة ما في طريقها إليهم.

نحن اليوم نجاور البحر في منطقة المواصي بخانيونس، نراه قريبًا إلى حدّ اللمس، لكنه محرم علينا؛ فالسمك يمرح أمام أعين الصيادين، غير أن الرصاص يسبق أي محاولة للوصول إليه. عشرات فقدوا حياتهم بحثًا عن لقمة تقي أبناءهم نقص البروتين الذي صار جزءًا من يوميات العوز بعد انقطاع اللحوم لأكثر من عامين.

أما الخيام، فقد تآكلت جوانبها، وانكشفت أسرارها أمام أول هبة ريح. المطر يخترقها بلا استئذان، والبرد يلسع أجساد الأطفال كأنه عقاب لا ينتهي. الشوادر التي كانت تُعدّ حائط الصدّ الوحيد أمام الطقس، ارتفعت أسعارها حتى صار ترميم خيمة أهمّ من شراء الطعام.

ومع شحّ المياه، تحوّل الحصول على شربة نظيفة إلى معركة يومية. تدافع وصراخ، وأحيانًا إطلاق نار فقط لانتزاع الأسبقية. وفي ظل غياب غاز الطهي، لجأ الناس إلى الحطب؛ يشتريه النازحون بأثمان باهظة، ويقضون ساعات في تقطيعه. يتصاعد دخان المواقد البدائية، فيختنق الصدر، ويكلّ البصر، ويثقل الهواء برائحة الاحتراق.

وحيث تتجاور الخيام وتضيق المساحات، كثرت المشاكل العائلية. صراخ أطفال، شجارات شباب، خصومات تنزلق بسرعة إلى تدخل الكبار، وأحيانًا إلى اشتباكات مسلحة تسقط فيها ضحايا… كل ذلك تحت ضغط نفسي ومعيشي لا يرحم.

ولأن الوقت طال، لجأ البعض إلى إقامة حفلات زفاف داخل المخيمات، بمكبرات صوت تصدح حتى ساعات متأخرة، في مشهدٍ جرح مشاعر جيران فقدوا أبناءهم وأقرباءهم. سلوكٌ غريب عن قيمنا الفلسطينية التي لطالما مجّدت المواساة واحترام الجراح.

وفي “التكايا”، تتكرر يوميًا مشاهد تدافع النساء والأطفال للحصول على وجبة عائلية صغيرة. مشهد مفهوم، لكنه موجع. وفي الأسابيع التي لم نجد فيها سوى المعلبات، دبّ في الناس الوهن والضعف وانعدمت القيمة الغذائية الحقيقية للطعام، فاضطر كثيرون – وأنا منهم – إلى زيارة المستشفيات الميدانية طلبًا للفحوصات والعلاج.

أما النزوح المستمر من منطقة لأخرى، فقد أنهك الناس جسديًا ونفسيًا وماليًا. لا مرافق للترفيه أو التفريغ النفسي، ولا مساحة للحوار أو التوجيه. اختفت المرجعيات الرسمية والدينية، وغابت الجهات التي يمكن أن تضبط السلوك العام، فصار “الكل ماشي على حلّ شعره”.

ومع تعطّل البنوك، وجد الطامعون فرصة للاستغلال. انتشرت العمولات المرتفعة بشكل مخجل، وساد الغلاء الفاحش، وظهرت حالات سرقة للمساعدات الإغاثية. وكان الاحتلال يرقب كل هذا ويعمّق فوضى الجوع، لخلق بيئة تُغري بالفساد، وتُضعف الثقة بين أبناء الشعب الواحد.

ورغم هذا المشهد المثقل بالألم، فإن جوهر شعبنا لا يزال حاضرًا. بين كل هذه الظواهر الطارئة، تبرز آلاف القصص عن التكافل، ومشاركة الخبز، وإنقاذ الجار، واحتضان الطفل الغريب، وتحمّل القهر بكرامة.
نحن شعب لا تهزمه الظروف، حتى إن انكسرت النفوس لبعض الوقت. ومع كل هذا الدخان والجوع والخذلان، يبقى الأمل هو حجر الزاوية الذي نعيد بناء حياتنا عليه.

وكما قال أبو تمام في حكمة تصلح لكل زمان ومحنة:

إذا اعتادَ الفتى خوضَ المنايا
فأهونُ ما يُلاقيهِ الخُطوبُ