نتنياهو بين العقيدة التوراتية والمراوغة السياسية ..عبد الغني سلامة

الإثنين 16 يونيو 2025 01:25 م / بتوقيت القدس +2GMT
نتنياهو بين العقيدة التوراتية والمراوغة السياسية ..عبد الغني سلامة



أستضيف هنا مقالاً لأحد الأسرى المحررين فضّل الكتابة لدواعٍ أمنية باسم د. سراج منير:
في كل مرة يُفتح فيها النقاش حول شخصية بنيامين نتنياهو، يتكرر التوصيف السطحي الذي يختزله في كونه مجرد سياسي نرجسي، يسعى لبناء مجد شخصي، ويعمل على إطالة بقائه في الحكم مهما كلّف الأمر، ويتهرب من محاكمته بتهم الفساد.. حتى لو كان الثمن دماء عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ولو كان على حساب مصلحة إسرائيل نفسها. ويعزز هذا الخطاب كثيرٌ من المحللين الإسرائيليين، وحتى بعض العرب، في محاولة لتمييز الرجل عن «المنظومة الصهيونية» التي يمثلها، والإيحاء بأنّ المشكلة في شخصه، لا في جوهر المشروع الذي يخدمه.
فهل هو مجرد طامح للمجد أم مُنفّذ أمين للمشروع الصهيوني؟
اختزال توصيف نتنياهو بالنرجسي، أو بالهارب من المحاكمة، إن لم يكن باطلاً تماماً، إلا أنه مضلل في جوهره، لأنه يُغفل الحقيقة الأهم: أنَّ نتنياهو لم يخرج عن المشروع الصهيوني، بل إنه أحد أوضح تعبيراته السياسية والأيديولوجية، وأكثر من عمل بشكل مباشر وفعّال على تحويل هذا المشروع من «نصوص توراتية» و»رؤى صهيونية» إلى واقع جغرافي وسياسي وثقافي وإنساني على الأرض الفلسطينية.
أولاً: ولفهم نتنياهو، لا يكفي الوقوف عند خطاباته أو سياساته، بل يجب العودة إلى جذوره الفكرية؛ فهو امتداد مباشر لجابوتنسكي ووالده بن تسيون الذي كان مؤرخاً صهيونياً يمينياً متطرفاً، ويُعد من أبرز أنصار فكرة «يهودية التاريخ والجغرافيا»، وقد تأثر بعمق بفلاديمير جابوتنسكي، مؤسس «الصهيونية التنقيحية» التي تبنت خيار القوة العسكرية باعتبارها الطريق الوحيد لإقامة دولة إسرائيل.
جابوتنسكي رفض دوماً أي فكرة للتعايش مع العرب، وأعلن صراحة: «لا يمكن بناء دولة لليهود إلا خلف جدار حديدي من البنادق والدبابات».
وقد تشرّب نتنياهو هذا الإرث الأيديولوجي، ونقله من الحقل النظري إلى التنفيذ السياسي الدقيق.
كتابه «مكان تحت الشمس» ليس كتاباً سياسياً فقط، بل وثيقة تفصيلية تستلهم النص التوراتي لتحويله إلى خطة استعمارية قابلة للتنفيذ، من تهويد الضفة والقدس، إلى تفكيك «الأونروا»، فشطب حق العودة، إلى فصل غزة جغرافياً وسكانياً تمهيداً لإفراغها.
ثانياً: فهم شخصية نتنياهو وتنقله بين العقائدي الماكر والبراغماتي الذي يناور كالثعلب؛ رغم جذوره التوراتية العميقة، فإن نتنياهو ليس غبياً أو جامداً. بل هو أحد أكثر السياسيين في تاريخ الكيان الصهيوني براغماتية ودهاءً.
يقرأ الواقع الإقليمي والدولي بدقة، ويجيد توظيف التناقضات: عقد تحالفات مع أقصى اليمين الديني (بن غفير وسموتريتش) دون أن يخضع لهم، بل واستخدامهم شماعة وفزاعة.
دعم حماس مالياً ولوجستياً في غزة عبر الحقيبة القطرية، فقط لأنها تشكل أداة تفكيك للوحدة الوطنية الفلسطينية، وعقبة حقيقية أمام إقامة الدولة الفلسطينية، بينما كان يحاصر السلطة ويجفف مصادر تمويلها. كما فاوض أميركا على اتفاق واي ريفر، لكنه أعلن في مؤتمر صحافي بعد ساعات من عودته إلى تل أبيب أنه لن يلتزم بأي بند من الاتفاق، في أول خطوة جدية لتجميد اتفاق أوسلو.
قدّم نفسه كـ»حامٍ للغرب وللعرب من الخطر الإيراني» ليحصل على الدعم الكامل، فيما كان في الواقع يعمّق المشروع الاستيطاني ويضع الأسس العملية لتصفية القضية الفلسطينية.
هنا تتجلّى شخصيته المزدوجة: التوراتي العنصري الذي يُخفي سيفه خلف قفاز دبلوماسي ناعم، والبراغماتي الذي يستخدم أدوات السياسة الدولية والإعلام والمخابرات لخدمة هدف عقدي ثابت.
ثالثًا: هدفه الثابت منذ 1996: منع قيام دولة فلسطينية؛ فمنذ صعوده الأول لرئاسة الوزراء العام 1996، كانت بوصلته واضحة: رفض حل الدولتين صراحة، حتى في أوج الضغوط الأميركية. تفكيك «الأونروا»، بوصفها المؤسسة الدولية الوحيدة التي تحفظ رمزية اللجوء وحق العودة. تعزيز الانقسام الفلسطيني عبر دعم طرف وإضعاف آخر. رفض عودة السلطة إلى غزة، حتى بعد الكارثة الإنسانية التي تسبب بها، لأنه يعرف أن وحدة الجغرافيا السياسية الفلسطينية تعني عودة إمكانية الحديث عن الدولة، وضرورة دخوله في تسوية سياسية.
ويفاخر علناً بأنه من منع إقامة دولة فلسطينية، في حين أن سلفه شارون «منع قيام الدولة من خلال الفصل الجغرافي»، وها هو اليوم يكمل المهمة عبر أدوات الإبادة والتجويع.
رابعاً: حرب غزة ليست لحظة غضب، ولا حرب انتقام، بل هي خطة تنفيذية قديمة، منذ أن أعلنت إدارة ترامب في 2017 عن «صفقة القرن»، وما تبعها من خطة إسرائيلية رسمية أصدرتها وزارة الاستخبارات العام 2018 بعنوان «حل إنساني لغزة»، تجلّت نوايا تهجير السكان إلى سيناء بوسائل مركّبة: تجويع، قصف، تدمير البنية التحتية، تعطيل الحياة الصحية والتعليمية والبيئية، خلق بيئة طاردة حيوية تدفع الغزيين نحو الهجرة «طوعاً».
ونتنياهو يطبق هذه الخطة اليوم، بمنهجية تشبه الإبادة الممنهجة، لا فيزيائياً فقط بل نفسياً ومعيشياً وثقافياً.
خامساً: ليس مجنوناً ولا منفرداً؛ بل مُنفّذ واعٍ لمشروع عنصري شمولي؛ اختزال نتنياهو بأنه «مهووس بالمجد» أو «ديكتاتور هارب من السجن» قد يبدو جذّاباً إعلامياً، لكنه يقفز عن الحقيقة الأخطر: أن الرجل يحظى بدعم واسع من المجتمع الصهيوني وأحزابه ومؤسساته الأمنية والسياسية، لأن ما يفعله هو ترجمة عملية لعقيدة استعمارية عنصرية تأسست عليها «دولة إسرائيل».
ليس نتنياهو «الشيطان الوحيد» في المشهد، بل هو أكثرهم إخلاصاً للخطة الكبرى. مشروعه ليس عابراً، بل مؤسساً على أسس توراتية، أمنية، استراتيجية، يتوارثها قادة إسرائيل جيلاً بعد جيل.
وختاماً، لا خلاص إلا بفهم البنية، لا الشخص. المعركة مع نتنياهو ليست مع شخص، بل مع بنية متجذرة، مع عقلية ترى الفلسطيني خطراً وجودياً، مع مشروع صهيوني لا يقبل القسمة أو الشراكة، مع ماكينة إعلامية وأكاديمية غربية تبرّر الإبادة باسم «الدفاع عن النفس».
مواجهة هذا المشروع تبدأ من فهمه كما هو، لا كما تُحبّ بعض النخب أن تُصوّره.
وليس أمام الفلسطيني إلا وحدة الجبهة الداخلية، ورؤية استراتيجية شاملة تتعامل مع «نتنياهو» كحالة تاريخية من الصهيونية، لا كحادث عرضي أو خطأ فردي.