طهران تل أبيب وبالعكس، ماذا تُعلّمنا الحرب ..عامر بدران

الأحد 15 يونيو 2025 12:32 م / بتوقيت القدس +2GMT



لم تتكشف، حتى لحظة كتابة هذا المقال (صباح أمس السبت)، لا نتائج حربية ولا نتائج سياسية، للضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، لكن ما يمكن رؤيته واستخلاصه كانطباع أولي هو أننا إزاء حرب حقيقية، يقوم كل طرف من أطرافها باستخدام قوته التقليدية في أقصى قدراتها لإيذاء الطرف الآخر ومحاولة تركيعه. فإسرائيل تنفذ غارات واسعة ومتتالية على القواعد العسكرية الإيرانية، بعد أن اغتالت شخصيات عسكرية وعلمية مهمة، وإيران تطلق عشرات الصواريخ تجاه وسط تل أبيب وبالقرب من وزارة الدفاع ذاتها، ويقول الناطقون باسمها بثقة عالية إن الحديث عن تهدئة وضبط للنفس ليس لهما معنى.

إذاً، هي حرب وليست مجرد ضربة يليها رد بعد طول انتظار وترقب، ثم رد على الرد، وهكذا، كما جرت العادة سابقاً.

حرب يقاتل فيها الطرفان في اللحظة نفسها، وعلى أراضي الطرفين أيضاً.

وهي حرب يصعب التكهن بمداها الزمني وبمآلاتها ونتائجها، فقد تنتهي بعد ساعة من الآن، وهذا مرجح جداً، لو أخذنا بالاعتبار مصلحة أحد طرفيها، وقد تستمر طويلاً إن فكرنا كما يفكر طرفها الآخر.

أقصد أن أي تخمين من هذا القبيل إنما هو مستند، دون شك، إلى التصورات المسبقة عن قوة كل طرف، وقدرته على الصمود أو المغامرة، ورغبته في الحفاظ على مصالحه.

لكن هذه الحرب إن كانت قصيرة كما أتوقع، قدمت لنا دروساً لا يمكننا تجاهلها ولا تجاهل تبعاتها، وهذه الدروس يمكننا صياغتها على شكل ملاحظات، لن ينتهي مفعولها حتى لو انتهت الحرب سريعا:

الملاحظة الأولى تتعلق بالكمّ الكبير وغير المسبوق من الكتابات التي تتشفى بإيران، أو تلك الأكثر اعتدالاً وتتمنى الخسارة للطرفين معاً. لم يكن أحد يتخيل أن تدخل إسرائيل حرباً مع أي طرف أو دولة مهما كانت، وأن تجد من يتمنى السوء لهذا الطرف. لكن هذا حصل، وهو ليس وليد اللحظة على كل حال، بل يتراكم يوماً بعد يوم على مدار سنوات، عند اليمني الذي يكنّ العداء للحوثيين ويبادلونه بالمثل، وعند اللبناني المناوئ لحزب الله، وعند الفلسطيني، ابن غزة، الذي يعتبر أنه دفع دمه لتحسين شروط إيران في ملفها النووي، وعند الأردني الذي تم انتهاك حدوده الشمالية بتهريب المخدرات والسلاح، وعند السوري الذي قُمع باسم الممانعة و و و.

باختصار شديد هناك جزء كبير من المجتمع العربي، يعتبر أن إسرائيل تحتل أراضي عربية في فلسطين ولبنان وسورية، وإيران كذلك تحتل أراضي في لبنان وسورية والعراق واليمن، وأن هذين الاحتلالين أذاقا هذه المجتمعات ويلات لا يمكن التسامح معها، لذلك فإن أقصر الطرق للتعبير عما يدور في النفس هو طريق «فليذهب الطرفان إلى الجحيم».

إذاً، لإيران أعداؤها في المجتمعات العربية، ولها أنصارها بطبيعة الحال، وهنا تبرز ملاحظة أراها مهمة وتستحق الدراسة، وهي أن لغة التجييش القائمة على «مع وضد جهة خارجية» والتي حلت محل لغة السياسة لبرنامج ومشروع وطني، خلقت عند مجتمعات غير طائفية بالمعنى الديني، وتحديداً في فلسطين والأردن، طوائف سياسية. أعني أن اللغة المستخدمة والتحليل الطاغي ينطلق من نزعات طائفية ويخدم أهدافاً طائفية، دون وجود طوائف دينية بشكلها التقليدي، أي أن بنية الخطاب السياسي أصبحت بنية طائفية، ما يسهل الذهاب بسهولة نحو الحروب الأهلية في المستقبل.

الملاحظة الثانية تخص سلوك شرطي العالم، الولايات المتحدة الأميركية، في عهد ترامب، وهذا السلوك يعطينا مؤشرات لما نحن مقدمون عليه في المستقبل القريب، على الأقل في ولايته الرئاسية.

منذ أسابيع قليلة أعلن ترامب بشكل مفاجئ أنه عقد اتفاقاً مع الحوثيين في اليمن بعدم تعرض كل طرف للآخر في البحر الأحمر وفي صنعاء.

الحوثيون لا يستهدفون السفن الأميركية أو الدولية في البحر، وفي المقابل تكف القوات الأميركية عن قصف مواقع الحوثيين في صنعاء والحديدة وبقية أماكن سيطرتهم.

لقد هلل الحوثيون لهذا الاتفاق واعتبروه إنجازاً، وهلل معهم كل بقايا المحور الإيراني وأنصاره عندنا وعند غيرنا.

لكن لم ينتبه أحد للخديعة المقصودة والمتخفية وراء هذا الاتفاق، وهي ببساطة ترك الحوثيين لقمة سائغة للقوة الغاشمة الإسرائيلية.

لقد كان الوجود الأميركي في البحر الأحمر، وقصفه اليومي لمنصة صواريخ هنا ومحطة رادار هناك، عائقاً أمام إسرائيل لإطلاق يدها هي.

ولذلك فإنني أجزم أن الاتفاق تم بطلب إسرائيلي بالأساس، بمعنى افسحوا لنا المجال لو سمحتم، ونحن سنقوم بالمهمة.

وخير دليل على قناعتي هذه هو أنه بعد أيام قليلة من الاتفاق المذكور، قام الطيران الإسرائيلي بمسح ميناء الحديدة القديم والجديد، والقضاء على مطار صنعاء بمدرجاته وطائراته، وتدمير مئات المواقع وخزانات الوقود.

فماذا استفاد الحوثيون من اتفاقهم مع أميركيا؟

المشكلة الكبرى هي أن إيران الراعية للحوثيين، لم تستفد هي الأخرى من هذا الدرس، في حال أنها انتبهت له أصلاً.

لقد بدأت مفاوضات جدية حول ملف إيران النووي بوساطة عمانية، وعلى مدار شهرين من المفاوضات مثّل نتنياهو دور المُستبعد غير الراضي، ومثّل ترامب دور الحريص على إنجاح هذه المفاوضات، وكان كل يوم يصرّح بما يُفهم منه أن المفاوضات هي الطريق الأسلم والأقل كلفة لحل هذه المشكلة، وفجأة، حين شعر أن الإيرانيين لا يُبدون الليونة اللازمة ترك نتنياهو يوجه ضربته القاتلة.

أنكر ترامب في البداية، ثم بكل برود اعترف أنه على علم مسبق بتلك الضربة، في سابقة لا تتماشى مع الدبلوماسية ولا حتى مع أعراف الزعران.

الملاحظة الثالثة تتعلق بالتخطيط الإسرائيلي طويل المدى لأي تحرك محتمل، وهنا لا أقصد لا المسيّرات التي انطلقت من داخل الأراضي الإيرانية لتضرب مواقع هناك، ولا حتى التخطيط الاستخباري المسبق، بل تهيئة الظروف والجغرافيا المناسبة في مكان بعيد ولا يثير الشكوك.

لقد قام سلاح الجو الإسرائيلي على مدار شهور بقصف كل العتاد العسكري السوري، من مضادات وأجهزة رادار، في شرق وجنوب سورية، بحيث أفرغ المنطقة من أي تجهيزات يمكنها أن تكشف أو أن تتصدى لأي طائرة تمر من سماء المنطقة.

بهذه العملية استطاع أن يقصّر الطريق بين إسرائيل والحدود الإيرانية إلى الثلثين، ما سمح لطائراته الحربية أن تقوم بمهمتها ذهاباً وإياباً دون الحاجة للتزود بالوقود.

لقد قصف في سورية ليقرب إيران، بينما كان المحللون يستغربون من هذا العدوان غير المبرر بعد سقوط نظام الأسد، ويكتبون عنه بلغة استهجانية مضحكة.

ستنتهي الحرب آجلاً أو عاجلاً، ونحن سنتعلم وقد لا نتعلم.