تتعرض فلسطين، قضيةً وشعبًا، منذ السابع من أكتوبر 2023، لأعنف هجوم في تاريخها الحديث: قصفٌ مستمر، وحصار شامل، وجرائم حرب ترتكبها آلة الاحتلال الإسرائيلي، يرافقها توغل استيطاني متسارع، وإرهاب المستوطنين، وتهويد ممنهج للقدس، وانتهاك صارخ لكل القوانين والمواثيق الدولية؛ وكل ذلك يحدث أمام أعين العالم، الذي تكتفي فيه كثير من العواصم الكبرى بمواقف رمادية، أو تنحاز صراحةً إلى سلطة الاحتلال.
وفي خضم هذا العدوان، لا تعمل آلة الحرب وحدها، بل تشتعل أيضاً الجبهات الإعلامية، حيث تُخاض معركة الرواية والوعي على الشاشات العربية والأجنبية، لا يغيب المشهد، لكنه يتشوّه ويتكاثر فيه من يُسمّون “محللين سياسيين”، حتى صار بعضهم عبئًا على الحقيقة أكثر من كونه خادمًا لها.
في هذا المشهد المحتدم، لا يكفي أن نتابع الحدث فقط، بل يجب أن ننتبه لمن يرويه وكيف يرويه.
بعض هؤلاء يستحق حقًا لقب “محلل سياسي”، ليس لأنه يتقن فن الظهور التلفزيوني، بل لأنه يستند إلى أدوات تحليل رصينة وأدبيات العلوم السياسية، يضع الحدث في سياقه، يضيء تعقيداته، ويقدم مقاربة معرفية تُعين المشاهد على الفهم لا على الاصطفاف؛ هؤلاء قلة، ومهمتهم تزداد صعوبة وسط فوضى الصوت والصورة.
في المقابل، يطفو على السطح نوع آخر من “المحللين” الذين لا يحللون شيئًا، بل يكتفون بنقل ما ورد في شريط الأخبار أو إعادة سرد بيان بلغة إنشائية، دون طرح أسئلة “لماذا؟” أو “كيف؟”، ويُلقون عبء الفهم والتأويل على المشاهد.
لكن المشهد لا ينتهي هنا؛ فهناك من يتقمص دور الخبير، لكنه لا ينقل سوى ما تقوله الصحافة الإسرائيلية — التي هي في جوهرها إعلام موجه — متذرعًا بـ”الاطلاع على العدو”، لكن هذا الاطلاع سرعان ما يتحول إلى تبني للرواية وتكرار لأدبيات الاحتلال دون نقد أو تحفّظ، فتتحول هذه الأصوات إلى بوق ناعم للرواية الإسرائيلية، يمررها بهدوء تحت غطاء “التحليل”.
أما الأخطر، فهم الذين يعملون “بالقطعة”؛ محللون يكيفون قراءاتهم حسب أجندة القناة وتوجهات الممول، يرفعون شعار “التحليل” بينما يمارسون فن التمويه، يظهرون في فضائية تموّل تيارًا سياسيًا معينًا فيتبنون خطه، ثم يظهرون في قناة أخرى فيبدلون خطابهم بما يتناسب مع أجندتها؛ هؤلاء ليس لديهم صوت مستقل، بل هم صدى لمن يدفع أكثر أو يؤمن لهم المنبر.
وربما لا تقف الخطورة عند حدود هذا التدليس الفردي أو التلوّن المهني، بل تمتد إلى ما هو أعمق وأخطر: حين يتحول التحليل الإعلامي إلى أداة ضمن مشروع سياسي أوسع تخدمه دول بعينها تعمل ضمن هندسة إعلامية محكمة، تتقاطع — عن وعي أو بتكليف — مع مشاريع دولية تخدم أهداف الاحتلال؛ تلك الدول توظف أدواتها الإعلامية لتغطي سوءاتها بلباس الفضيلة، وتُمعن باسم “الحقيقة” في تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي، متسترة بشعارات التنوير أو مقاومة الاحتلال، حتى وإن بدا خطابها هجوميًا على المحتل.
بهذا المعنى، تُستثمر هذه الأدوات الإعلامية لتفكيك ما تبقى من الوعي الجمعي، وإعادة تشكيله وفق مقاييس نظام دولي يرى في تفكك المجتمعات فرصة، وفي تماسك أي دولة أو قوة سياسية تظهر الحد من الندية خطرًا ينبغي احتواؤه أو تصفيته.
فالتلاعب بالوعي لا يحتاج إلى سلاح؛ يكفي أن تُزيّف الحقيقة بلباس التحليل، وتمنح الوهم نبرة الخبير، فتُحاصر العقول من الداخل، بينما يُقصف الجسد من الخارج.
ولأن الخطر هنا لا يقتصر على التحليل السياسي، بل يتعداه إلى المآلات الاجتماعية، فإن التاريخ يقدم لنا نماذج دامغة.
من أبرزها تجربة رواندا قبيل الإبادة الجماعية عام 1994، حين تحولت إذاعة محلية تُدعى “راديو ميل كولين” إلى أداة شيطانية لبث الكراهية والتحريض بين الهوتو والتوتسي، لم تكن تلك الإذاعة مجرّد وسيلة إعلامية، بل تحولت إلى ماكينة شيطنة ممنهجة، تلبس التحريض لباس التحليل، وتصوّر الجار عدوًا، والمواطن خائنًا. شيئًا فشيئًا، تم تمزيق النسيج الاجتماعي وتشويه الوعي الجمعي، حتى صار القتل يُرتكب في وضح النهار، "بغطاء شعبي" و”شرعية إعلامية”.
هذه التجربة تبرز بوضوح كيف يمكن توظيف الإعلام كأداة للسيطرة الناعمة، حيث يتحول من وسيلة للوعي إلى آلة تدمير؛ ولتحليل هذا النوع من السيطرة، من الضروري التوقف عند بعض المفكرين الذين تناولوا هذه الظاهرة بعمق.
يقول نعوم تشومسكي، الفيلسوف الأمريكي: “الطريقة الأكثر فاعلية للسيطرة على الناس ليست بمنعهم من الكلام، بل بجعلهم يتجادلون ضمن حدود يضعها من يملكون السلطة”، وهذا ما نشهده اليوم حين يحتكر بعض “المحللين” منصات الخطاب السياسي، ويُحجّمون أفق النقاش.
وهكذا، يصبح بعض “المحللين” أدوات لإحكام السيطرة على الوعي لا لتحريره، شركاء في القصف المعنوي، حتى وإن كان تحت قناع التحليل السياسي؛ ففي زمن الحرب، حيث تقصف الطائرات الحجر والبشر، تقصف بعض الأصوات الوعي، لذلك لا يكفي أن نسأل: “ماذا يقول المحلل؟”، بل يجب أن نطرح أيضًا: “لمن يعمل؟ وبأي أدوات؟ ولماذا الآن؟”.
في معركة الوجود الفلسطيني، ومواجهة مشاريع تصفية القضية، لا بد أن نجعل تحرير خطابنا أولوية وطنية، وأن نعزز فضاءنا الإعلامي بأصوات ومتحدثين يعيدون الأمور إلى نصابها، ويرسخون رواية تحررية تسعى لتحقيق النجاة الوطنية، ووقف آلة الحرب، والعمل على تعافي شعبنا، من خلال تعبئته بما يقوي جبهته الداخلية، ويحمي إرادته أمام حملات التشويه والتفكيك.
وفي المقابل، لا بد من تحييد الأصوات الجوفاء التي تصدح لتميت الوعي، وتضلل البوصلة، وتغمر الحقيقة بأكاذيب ملساء.
أي صوت يُبخس قيمة الإنسان الفلسطيني، ويختزل ما يتعرض له من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في “خسائر تكتيكية” أو “قرابين وفداء”، أو يكرس نهج الانقسام، أو يعزز طرفًا على حساب آخر، بينما يحجب ويحيّد أي صوت يعتبر أن كل نقطة دم فلسطينية خسارة فادحة، وأن المصالحة الوطنية خيار استراتيجي لا حياد عنه، وأن استقلالية القرار الفلسطيني ضرورة وطنية لا تنازل عنها، لا يعدو كونه تضليلًا مشوهًا يحرّف البوصلة، ويخدم أجندات ظلامية ولا وطنية، ويهدر ما تبقى من طاقة الصوت الحقيقي في زحام الصدى.
فالصدى لا يصنع فكرًا، ولا يهدي سبيلًا؛ وحده الصوت الحقيقي، المستند إلى المعرفة والصدق، قادر على الصمود وسط هذا الركام.
في زمن تشتّت الأصوات وتكاثر الصدى، تبقى مسؤوليتنا الكبرى تكريس الأصوات الواعية، وتعزيز المتحدثين القادرين على الفصل بين صدى الوهم وصوت الحقيقة، وإيصال الرسالة الوطنية بصدق ومهنية إلى الداخل قبل الخارج، لأن الوعي ـ في نهاية المطاف ـ هو خط الدفاع الأول في معركتنا الوطنية.
ففي زمن التزييف، يصبح الصدق مقاومة.