"الكاتب دائماً ما يكون موجوداً في كل كتاب يكتبه، كما الشاعر والرسام والموسيقي، وغيرهم من المبدعين، لكن السؤال هو كيف يتنكر بحيث لا يراه المتلقي، فإذا ما شاهده فثمة إشكالية فنيّة.. ورغم اختلاف التقنيات، تبقى الأفكار هي أفكار كاتبها، والشخصيات هي من صناعته، والموضوع من اختياره، فالكاتب موجود دائماً في كتبه، لكن الأهم ألا يكون تحت الضوء، بحيث يبدو وكأن هذه الشخصيات تفكر بذاتيتها، وتحدد مصائرها دون تدخل مفضوح".
هذا ما ذهب إليه الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله في حوارية معه حول روايتيه "مصائد الرياح" وهي أحدث رواياته، و"أرواح كليمنجارو" الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية في العام 2016، وكلتاهما ضمّنهما سلسلته الشهيرة "الملهاة الفلسطينية"، وهي حوارية احتضنتها قاعة سينما "الرينبو" في العاصمة الأردنية عمّان، مساء أول من أمس، بتنظيم من "سلسلة نادي الكتاب"، حاورته فيها أمواج أبو حمدة.
"مصائد الرياح"
وكشف نصر الله عن أن عنوان "مصائد الرياح" خطر له منذ بداية الكتابة، واصفاً إياه بالأمر النادر، خاصة أنه يتعامل مع العنوان بحذر حدّ أنه أخر إصدار بعض الروايات لعام أو يزيد لحين التوصل لعنوان يجده مناسباً لها، وهو العنوان الذي وجد فيه تمثيلاً حقيقياً لنفسيات شخصيات الرواية، أو للشخصيتين الرئيستين فيها، وهي تندرج فيما يمكن توصيفه بـ"الشخصيات الواسعة"، بحيث تعبّران عن "قطاع عريض في النفس البشرية".
ووصف نصر الله روايته الأحدث، دون الغوص في تفاصيلها، بأنها متعددة الطبقات، ويمكن تناولها أو دراستها من زوايا متعددة، وتتناول أجيالا فلسطينية في ثلاثة أزمنة، بحيث تمتد أحداثها منذ العام 1936 وحتى العام 2022، وفيها تعبير عن "الجيل الفلسطيني الجديد"، وهو ما لم تعبّر عنه روايات "الملهاة الفلسطينية" السابقة، مطلقاً على "الطبقة الكبرى" في الرواية توصيف "الطبقة الماكرة"، بحيث "تشغلك في ثلاثة أزمنة وثلاثة أمكنة، وتجعلك تنسى سطوة الراوي العليم".
وأشار إلى أن "الراوي العليم" في الرواية، ويحضر في عنوانها الفرعي "ثلاثية الراوي العليم"، ذو حضور مركزي، فالثلاثية، وهذا جزؤها الأول، مرتبطة به، وليس بأي من الشخوص أو الرمزيات في الرواية التي هي "بيت بخمسة أبواب"، وقضية الانحياز لأي باب منها، مرتبطة بمستويات القراءة، فهناك من ينجذب إلى قصة الحب بداخلها، وهناك من ينحاز إلى تاريخ الأجداد في فلسطين، أو للخيول، أو التأملات، وغيرها، مشدداً على أنها، وحسب اعتقاده، "من الروايات التي لا تقرأ لمرة واحدة".
و"الراوي العليم"، وفق صاحب "الملهاة الفلسطينية"، مطلق الفهم، وهو هنا شخصية في رواية، و"لا أدري إن كانت الفكرة مسبوقة أم لا"، فبعيداً عن مضامين الرواية، الحديث هنا عن تقنيّات فنيّة تخرج "الراوي العليم" من لا ملموسيّته، وتحولّه إلى شخصية تشتبك وشخصيات الرواية الأخرى، ولا شك أن حوارياته مع الكاتب في الرواية "استدعت همومي الكتابية، وفكرة الكتابة، وفكرة الشخصية في الرواية، ومصائر البشر في الروايات وخارجها، وغير ذلك".
وكشف نصر الله عن أنه بدأ كتابة رواية "مصائد الرياح" في العام 2021، وأنهاها في العام 2022، وكانت مراجعتها النهائية في صيف العام 2023، أي قبل أحداث السابع من أكتوبر والإبادة الإسرائيلية على غزة، التي بالتالي لم يكن لها أي تأثير عليها، لا من قريب ولا من بعيد.
الرواية المؤجلة
وحول حرب الإبادة والكتابة، وفي رد على سؤال لـ"الأيام"، أجاب نصر الله: أنا على قناعة أنه عند الكتابة عن حدث ما لا بد من التقاط جوهره، ويسعدني أن روايتي "أعراس آمنة" التي كتبتها عن غزة منذ عشرين عاماً لا تزال تحظى بمقروئية عالية، وكأنها تحكي الإبادة وما حدث في غزة في الخمسة عشر شهراً الماضية، لذا حين تود الكتابة عن حدث غير مسبوق كهذا لا بد أن تكون حقيقياً.
وبخصوص مشروعه الروائي الخاص بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وفي رد على سؤال آخر لـ"الأيام"، أكد نصر الله أن هذا المشروع متواصل منذ العام 2009، وقابل في إطاره الكثير من الأسرى، في المرّات القليلة التي أتيح له فيها زيارة فلسطين، لكن "حكاية الأسرى متجددة، فكل يوم يتغير نمط حيواتهم، ونمط التعاطي الصهيوني معهم، ولذا لا بد من التقاط الجوهر".. "فكرت في كتابة رواية عن النطف المهربة منذ البدايات، ولدي تصوّر كامل بشأنها، لكن ليس كل ما نفكر فيه يمكن تحقيقه، وأنتظر لحظة نضوجها التام لكتابتها".
"أرواح كليمنجارو"
وعن حكاية رواية "أرواح كليمنجارو"، فصّل نصر الله: حين سمعت من الصديقة سوزان الهوبي، وهي أول فلسطينية وعربية تصل إلى قمة "إيفرست"، نيتها تنظيم رحلة إلى صعود "كليمنجارو" دعماً لأطفال فلسطينيين فقدوا بعض أطرافهم بسبب "العدو الصهيوني"، تأثرت بالمبادرة، وبعد ساعات هاتفتها لأخبرها بأنني سأكون من بين المشاركين، وقررت ذلك لشعوري بأن هذه المبادرة امتحان كبير لكل ما كتبت في حياتي، فقد جاءت اللحظة التي يمكن أن أكون برفقة هؤلاء الأطفال، الذين استحقوا كل هذا الدعم، لذا قررت الصعود، وكنت الأكبر سناً بين المشاركين.. تدربت كثيراً، وكانت تجربة استثنائية فعلاً، وللحقيققة لم أكن أفكر في كتابة رواية أو كتاب أدب رحلات بالمطلق، وكل ما كتبته من ملاحظات لا يتجاوز العشر صفحات، لكني شعرت فيما بعد، أن الرحلة تستحق التوثيق بطريقة إبداعية، خاصة أنك من الصعب أن ترى المشهد وأنت بداخله، وبالتالي كانت الرواية.
وكشف نصر الله عن أن "أرواح كليمنجارو" هي الرواية التي لطالما كان يتمنى كتابتها، بحيث كانت تداعب مخيلته فكرة الكتابة عن أناس في مكان منعزل، بعيداً عن المدن وعن الصخب، وبمشاركة عدد كبير من جنسيات وديانات ووظائف وأحلام مختلفة، لافتاً إلى لوحة كان قد رسمها في العام 1993 تصور أناساً متراصين في طابور صاعد إلى جبل، وكل من يصل القمة منهم يتحوّل طيراً، وهكذا كانت الرواية.
وإضافة الروايتين لـ"الملهاة الفلسطينية"، رغم أنهما تشتغلان في مناطق بعيدة عن المعارك والحروب المباشرة والتاريخ الفلسطيني، حسب نصر الله، جاءت لانخراطهما في المعارك الداخلية للإنسان الفلسطيني، سواء أكانت "قصة حب" في "مصائد الرياح"، أم "صعود جبل" في "أرواح كليمنجارو".