هآرتس - بقلم تسفي برئيل-
رحلة عودة سكان غزة إلى الشمال، بإدارة وإشراف حماس، توفر الإجابة على اقتراح ترامب الخيالي، إخلاء القطاع من السكان، “لتنظيفه”؛ للبدء في إعادة إعماره وبنائه من جديد. منطق رجل العقارات، الذي يتحدث بالمفاهيم المعروفة “الإخلاء والبناء” والتي حتى حصلت على تأييد عدد من مقربيه، لا يأخذ في الحسبان المفهوم الوطني “الصمود” – التصميم الذي ينعكس في الصمود على الأرض، حتى لو كانت هذه الأرض أرضاً محروقة ومليئة بالدمار وبقايا القذائف.
بالنسبة للمليون نازح، الخائفين والذين يشاهدون الدمار الذي خلفته الحرب للمرة الأولى، فإن السؤال هو من الذي تسبب بهذا الدمار أو من هو المتهم؟ بل هل يمكن تشخيص العنوان في هذه الأنقاض وإنقاذ غرض أو دمية لطفل، وبالأساس العثور على بقايا جثث أعزائهم الذين بقوا تحت الأنقاض؟ التقدير الحذر يتحدث عن 10 آلاف قتيل سيضافون إلى 46 ألف قتيل تقريباً حتى الآن. وبالحذر المطلوب، سيحاول أبناء عائلاتهم في الفترة القادمة إنقاذهم من بين الطوب وقضبان الحديد ودفنهم بسرعة.
حسب تقرير الأمم المتحدة، فإن حوالي 1.8 مليون مدني بدون مأوى، والحاجة الملحة هي توفير المأوى لهم، وتنظيم توزيع المساعدات الإنسانية التي بدأت تتدفق حسب الشروط التي تم تحديدها في اتفاق وقف إطلاق النار، وربط شبكات المياه، ثم شبكة الكهرباء. حماس التي تدير الآن التنظيم وتشغل أكثر من 5 آلاف ناشط، يساعدون النازحين في عودتهم، وتطالب المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة بتوفير لشمال القطاع 135 ألف خيمة وكرفان، التي بعضها مثلما في الشجاعية تم وضعها على الأرض وإعدادها للسكن.
حسب تقدير الأمم المتحدة، يقدر حجم الضرر المباشر للبنى التحتية في القطاع بـ 18.5 مليار دولار. تكلفة الإخلاء لحوالي 50 طناً من الأنقاض قدر بـ 1.2 مليار دولار. وإعادة إعمار القطاع تحتاج إلى 40 مليار دولار، وربما تستمر حتى العام 2040 وربما أبعد بكثير.
بيان السلطة الفلسطينية الذي يفيد أن “غرفة العمليات” الحكومية التي شكلتها للمساعدة في عملية عودة سكان القطاع إلى بيوتهم أصبحت جاهزة للعمل، يبدو بياناً أقل ما يقال فيه أنه غريب؛ لا لأن إسرائيل تعارض أي تدخل للسلطة رسمياً، بل لأن حماس هي التي تسيطر على مشروع العودة، وربما لن يكون للسلطة مكان للعمل سوى في إطار إعادة فتح معبر رفح.
حسب التفاهمات التي تم التوصل إليها مع الولايات المتحدة ومصر، سيعمل المعبر في إطار مشابه، لكن ليس كالذي تم وضعه حسب اتفاق المعابر الموقع عليه في 2005 بين إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية عقب قرار الانفصال عن غزة. “غرفة العمليات” الأهم هي التي أقيمت في مصر والتي تشارك فيها إسرائيل وأمريكا وممثلون فلسطينيون وقطر من أجل التنسيق والرقابة على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وعلاج ترتيبات عودة سكان شمال القطاع وإعادة المخطوفين وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين ووضع قواعد لفتح معبر رفح وإدارته. مهمة الغرفة الأساسية هي إزالة العقبات المحتملة قبل تنفيذ المرحلة الثانية للاتفاق، وبعد ذلك الانتقال إلى المرحلة الثالثة التي ستشمل إعادة إعمار قطاع غزة. بالصيغة الضئيلة للاتفاق الذي نشر في إسرائيل، بدون البروتوكولات، حصلت المرحلة الثالثة على ذكر في سطر ونصف.
لكن في الوقت الذي يتركز فيه النقاش العام والسياسي في إسرائيل حول قضية استئناف الحرب المحتمل بعد انتهاء المرحلة الأولى من إعادة المخطوفين، فإن إعادة إعمار القطاع هي التي تشغل مصر ودول الوساطة العربية التي يتوقع أن تمول هذا المشروع الضخم. مصر والأردن أيضاً، أوضحتا أول أمس بأنهما تعارضان اقتراح ترامب استيعاب سكان من القطاع في أراضيهما، “لفترة قصيرة أو فترة طويلة”، من أجل السماح بإعادة إعمار القطاع.
مع ذلك، تذكر مصر أن حلم “صفقة القرن” تشمل، ضمن أمور أخرى، إعادة إعمار القطاع وبناء مطار وميناء في العريش وإقامة منطقة صناعية كبيرة في شبه جزيرة سيناء، يتم تشغيل العمال الغزيين فيها، الذين سيعودون إلى بيوتهم كل يوم. وتعتقد مصر أن اقتراح ترامب الأخير، بعد شطب ترحيل الفلسطينيين منه، يدل على الأقل بأنه يعطي أهمية لإعادة إعمار القطاع، وعلى ذلك يعتمد الآن رجال اقتصاد ومقاولون ورجال أعمال من مصر.
مدير شركة بناء في مصر قال لموقع “الشرق” الإماراتي بأنه “الآن أصبح يمكن إقامة مشروع للبيوت المؤقتة في رفح المصرية، توفر السكن لآلاف سكان غزة، ثم إقامة مصانع أخرى للإسمنت ومواد البناء”. هكذا، البدء في تطبيق الفكرة التي طرحها ترامب قبل ست سنوات. مديرو شركات بناء كبيرة في مصر وأصحاب مصانع لمواد البناء مثل الإسمنت والحديد والزجاج والأخشاب، ومقاولون بناء وأصحاب معدات هندسية ثقيلة، يعتبرون غزة “أرض الفرص”، التي ستنقذهم من فترة الركود الطويلة والبطالة، وهم ينتظرون بصبر تعليمات الدخول إلى قطاع غزة، شريطة أن يكون هناك من يمول الأعمال ويضمن تنفيذ الدفع.
هذه الشركات اشترت معدات هندسية كثيرة عندما بدأ الرئيس السيسي في المبادرة لإقامة مشاريع بناء ضخمة، منها إقامة العاصمة الإدارية الجديدة. ولكن الأزمة الاقتصادية الشديدة التي أوصلت مصر إلى شفا الإفلاس والإصلاحات الاقتصادية في أعقابها، من بينها تذبذب سعر الجنيه المصري الذي انخفضت قيمته، وقوة الشراء في مصر وارتفاع الأسعار بشكل كبير، وتقليص الدعم الحكومي للطحين والوقود، وفقدان المداخيل من قناة السويس عقب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، والدين الوطني الكبير الذي يبلغ 168 مليار دولار – كل ذلك أدى إلى تأخير، وحتى تجميد وإلغاء، الكثير من المشاريع. شركات البناء والبنى التحتية وجدت نفسها في أعقاب ذلك مع معدات كثيرة وقوة بشرية مهنية كبيرة، لكن بدون مشاريع توفر العمل. بعض هذه الشركات جربت العمل في غزة، بعد أن خصصت مصر في 2021، في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عند انتهاء عملية “حارس الأسوار”، نصف مليار دولار لإعادة إعمار قطاع غزة بتنفيذ شركات مصرية.
مصر ليست الدولة الوحيدة التي تنتظر “الضوء الأخضر”. فقد أوضحت تركيا بأنها معنية بمشاركتها في المشروع، ومثلها قطر والإمارات. دبلوماسي تركي قال أمس للصحيفة بأن أنقرة تدرك جيداً بأن هناك حاجة لـ”تحسين العلاقات مع إسرائيل” للمشاركة في قناة الاستثمار في غزة، وربما إذا أصبح وقف إطلاق النار دائماً وتوقفت والحرب بالفعل، يمكن لتركيا الإعلان عن استئناف تجارتها مع إسرائيل. أقوال بنفس الروحية قالها الأسبوع الماضي نايل أولفاك، رئيس المجلس التركي للعلاقات الاقتصادية. إسرائيل تعارض إشراك تركيا وقطر في إعادة إعمار القطاع. ولكن لا تأكيد على أن هذا القرار سيكون في يدها فقط. العلاقات الوثيقة بين السعودية وتركيا، وبين قطر وتركيا، وبينها جميعاً وبين الرئيس ترامب وأبناء عائلته، قد تأخذ من يد إسرائيل احتكار تحديد مستقبل القطاع.