لقد حرَّكت مواجع النزوح والمجاعة وحجم الإبادة والكارثة الجماعية التي حلَّت بشعبنا الكثير من آهات القلب ولغط الكلام..
ففي ليل اليوم 453 للحرب، شعرت أن صحتي ليست على ما يرام، حيث ارتفع ضغطي إلى 220/110، وانعقد لساني، وانتابني شعورٌ بقرب دنو الأجل، فكانت سرعة الذهاب للمستشفى الميداني التابع للصليب الأحمر، ومن هناك تمَّ التحويل لمستشفى ناصر، حيث أجرينا عدة فحوصات وتخطيط قلب مع توصيات علاجية.
في اليوم التالي، ذهبنا إلى المستشفى الكويتي التخصصي لمزيد من الفحوصات والاستشارات الطبية.
في الحقيقة، كنت لعدة أيامٍ عاجزاً عن النوم؛ قلقاً ورأسي مثقلٌ متصدّعٌ من كثرة التفكير فيما آلت إليه أمورنا في النزوح، من فقر مدقع وجوعٍ أفرغ عظام الكثيرين من لحومها، وبردٍ مع صقيعه رجفت منه الأجساد، وأطراف الخيام البالية، فيما كانت توجسات البحث عن مآلاتٍ وتصورٍ لليوم التالي بعد وقف الحرب تأخذ بالألباب.
بعد الثالثة والنصف منتصف تلك الليلة، وجدت عقلي وقلمي يتحرك لأكتب ما أراه خواطرَ لا تبتعد كثيراً عما أجده نصائح وذكريات استحوذت على هذه المساحة من الصفحات، مع الشخص الذي عرفته لأكثر من عشرين عاماً في مواطنَ متعددة، كان آخرها في أبوظبي قبل عدة أيام سبقت حرب الإبادة العدوانية الأخيرة على قطاع غزة، والتي فَرضت علينا في السياقين الوطني والإنساني- أن نتعاون معاً ومع كوادر تياره الناشطين في العمل الخيري الإغاثي باستحقاق –استثنائي- يستوجب الكثير من الشكر والتقدير والثناء.
هذه الخواطر هي مُدونات صحوة ليلٍ وقت السحر، أحببت أن تكون فيها شهادتي منصفة بحق هذا الرجل، الذي تعرَّض لاستهدافٍ ظالمٍ من جبهتي الحلفاء والخصومِ في عالمٍ مليء بالمشاحنات السياسية، فكان ضحيةً لماكينات إعلامية طالت سيرته ومسيرته، وما شهدنا إلَّا بما علمنا.
الصديق العزيز محمد دحلان..
هذه الخواطر والكلمات هي نبضاتٌ صادقة من قلب تحاصره أجواء الوداع، ولا تدري نفسُه ماذا تكسب غدا.
صديقي أبا فادي..
لم ولن نختلف يوماً على حق شعبنا تحت الاحتلال في المقاومة بكافة أشكالها، ولكن علينا التسليم بأن قُدراتِنا محدودة، وعمقنا العربي والإسلامي ليس بالقوة والتوجهات التي تمنحه التأثير كثيراً في مجريات الميدان، والعالَم بإطاراته الدولية قد فقد بوصلة العدالة والإنصاف تجاه قضيتنا وشعبنا، وأمريكا سيدة قوى الشر ومملكة الظالمين والمتربصين والمستكبرين لا تُلقي لمظلوميتنا بالاً، وبينها وبين إسرائيل "تابوت العهد" الذي يربط بين السياسة والدين، والكونجرس الأمريكي أشبه بكهنة المعبد وسدنته الدجالين، حيث إسرائيل لا تخرج عن مشهدية "الحِلف الدنس" بصلاحيات المقدس الذي لا تطاله الاتهامات!
صديقي أبا فادي..
منذ بدأت دبلوماسية دول منطقة الشرق الأوسط في التحرك بعد الحرب، شاهدنا كيف عجزت 57 دولة عربية وإسلامية في قمتي الرياض من أن تخرج بقرارٍ يوقف الحرب، ويفك الحصار عن الفلسطينيين في قطاع غزة، وكان العجز والتسليم بالإبادة الجماعية لأكثر من 60 ألف نسمة، غالبيتهم من النساء والأطفال، وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمصابين في القطاعات التعليمية والصحية والإعلامية والبلديات وواجهات المجتمع المدني.
الصديق العزيز أبا فادي..
إن المرحلة الانتقالية القادمة تتطلب منَّا جميعاً خطاباً وطنياً "يجمع ولا يُفرِّق"، ويتحمل فيه القادة مسؤولية العمل للمِّ شمل الجميع، فكلنا وعلى طول مسيرتنا النضالية منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية على يد السيد أحمد الشقيري (رحمه الله)، وانطلاقة حركة فتح في الستينيات، لم ننجح -للأسف- في التأقلم والتعايش والتفاهم مع بعضنا البعض، وظلت المناكفات والتهميش ومحاولات إلغاء "وطنية الآخر" هي لغة التجريم والتخوين السائدة في تسيِّد واجهة الحرابة بين الكلِّ الفلسطيني، وفي المراوحة العنيدة بين فوهات البنادق وأعقابها.
صديقي أبا فادي..
أشهد أنك في شبابك وسنوات وجودك كطالبٍ في الجامعة الإسلامية، قد عايشت مع الشبيبة الفتحاوية هذه الأجواء من الصراع مع التنظيمات الفلسطينية بخلفياتها الأيدولوجية والدينية، وذلك إلى الحدِّ الذي جسَّدت فيه الخلافات نفسها على شكل مواجهات بالكلمات واللَّكمات، وظل مخزونُ الخصومة والأحقاد يكبر –للأسف- ويترسب مع السنين.
ولولا أنَّ منسوب الحكمة الذي كان عليه الرئيس ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين (رحمهما الله) كان عالياً، لظلت نار الفتنة مستعرة تمزق بسكِّينها المجنون وطنية الطرفين، فالاحتلال كان يُسهم -بلا شك- في تأجيج ما سكن من نيرانها.
وبعد أوسلو وعودة الكثير من المقاومين إلى ديارهم، ونشأة السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، استبشرنا وشعبُنا خيراً، وكانت هناك جهودٌ بذلها الزعيم ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، بهدف التقارب وتحقيق الشراكة السياسية، ولكن إسرائيل كانت تقف لنا بالمرصاد وتقطع الطريق أمام أي اتفاق للتوافق السياسي يطفئ نار الفتنة ويدفعنا للتقارب لفتح نوافذ البيت الفلسطيني الذي انقسم على نفسه، وغشَّاه ضباب الرؤية، وأصبح ساكنوه كلٌّ يمشي مكبَّاً على وجهه!
ومع حالة التفاؤل والبُشرى التي سادت بعد الانتخابات التشريعية في يناير 2006 بتشكيل الحكومة العاشرة، صارت تَجمعنا مجالسُ وتفاهمات، إلَّا أن استشهاد الكثير من القيادات الإسلامية والوطنية التاريخية بالاغتيالات التي كانت تقوم بها إسرائيل، سهَّل المهمة وفتح الطريق للمتحاملين وطهابيب السياسة من الطرفين لتعلوَ أصواتهم ويأخذوننا في مواجهاتٍ مسلحة غير محسوبة العواقب، لنخسر كلَّ ما كان بيننا من ثقة وأمان وتغييبٍ مقصود للغة الصلح خير، لتصبح تُحرِّكنا ألحانٌ سيمفونية سياسية هزيلة ساخرة وبغيضة على وقع "حكومتان لشعبٍ بلا وطن"!
الصديق العزيز أبا فادي..
أتذكر أننا حاولنا معاً التواصل قبل وبعد تلك الأحداث المأساوية الدامية في ١٤ يونيو ٢٠٠٧، البحث عن علاجات تعافينا من جراحات تلك الفتنة، فكانت لنا لقاءات في بيتنا في رفح وداخل مكتبك في غزة وفي المنتدى حيث مكتب الرئيس محمود عباس وعلى الهاتف، ولكننا -للأسف- أخفقنا، وظلت الحالة تراوح في مكانها تتردى وتتسع في عداواتها.
في عام 2011، حدث ما حدث، واتسعت شُقَّة الخلاف بينك وبين الرئيس أبو مازن، مما اضطرك إلى مغادرة الضفة إلى الأردن، ثم للإمارات للإقامة والعمل.
الصديق العزيز أبا فادي،،،
كثيرةٌ هي اللقاءات التي جمعتنا، وكانت فيها العلاقات تتعزز معها الثقة بيننا وتتوطد.. فمن أول لقاء جمع بيننا وجهاً لوجه بالعاصمة واشنطن عام 2003 مع رئيس الحكومة –آنذاك- محمود عباس، إلى ترتيبات اللقاء بينك وبين الأخ موسى أبو مرزوق في القاهرة للتفاهم حول اتفاق معير رفح عام 2005، إلى العديد من اللقاءات شبه الحكومية في غزة عامي 2006-2007، ثم لقاءات القاهرة، عام 2011، إلى تأسيس جمعية التكافل الخيرية، والمشاريع الأخرى التي قمتَ بدعمها تشجيعاً لطلاب الجامعات، من حيث المنح الدراسية ومشاريع الزواج للخريجين وغيرها عبر دولة الإمارات للعديد من السنوات.
الصديق العزيز أبو فادي،،،
كنت دائماً مبادراً ومقداماً ما استدعت الضرورة الوطنية وإصلاح ذات البين بين فتح/التيار الإصلاحي وحركة حماس، ولقد عايشت بعض هذه المقاربات وتحركت في سياقها، بهدف تخفيف الاحتقان الفصائلي، فكانت "اللجنة الوطنية -الإسلامية للتكافل الاجتماعي"، ثم كانت "اللجنة الوطنية للشراكة والتنمية" برئاسة د. أسامة الفرا، وهي لجان كانت تقدم نموذجاً لإمكانيات الشراكة والعمل تحت مظلة واحدة، فالاستعدادات الوطنية لما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وفي السياق العام ليس هناك في السياسة عدو دائم أو صديق دائم، هناك فقط مصالح دائمة.
الصديق أبا فادي،،،
إنَّ المرحلة القادمة وما بعد (اليوم التالي)، تستدعي توسيع دائرة البطانة الوطنية الصالحة من حولك، فالتحديات كثيرة ومعقدة وما أفرزته "جدلية الأنا السياسية"؛ أي أنا أو أنت، خلال السنوات الماضية توجب الانفتاح على الآخر والتعايش معه بروح الشريك؛ امدد يدك لنعمل معاً، "شركاء في الدم شركاء في الوطن".
صديقي أبا فادي،،،
إنَّ الهبَّة الإنسانية التي بادرت بها ومئات الإخوة في التيار الإصلاحي لتقديم الدعم الإغاثي والإنساني كجنودٍ مجندة لخدمة النازحين في مراكز الإيواء عبر التكايا والنقاط الطبية ومراكز توزيع الطعام والشراب والخيام والملابس، لتؤكد على أصالة هذه الروح الوطنية والإنسانية العالية التي عليها الكثير من قيادات ومنتسبي هذا التيار.
صديقي أبو فادي،،،
في اللقاءات الأخيرة التي جمعت بيننا في أبوظبي قبل الحرب على غزة بأسبوع، لمناقشة خطة إصدار كتابي عنك والموسوم "رغم الخصومة.. دحلان كما عرفته"، حيث كانت بيننا لقاءات اللمسات الأخيرة على الكتاب.
وعلى هامش تلك اللقاءات في بيتك، كنتَ تبشرني عن عددٍ من المشاريع من بينها ألف شقة سكنية اعتمدتها الإمارات والشيخ محمد بن زايد كهدايا إنسانية لأهالي قطاع غزة، بغرض تحقيق التنمية والاستقرار والازدهار.
صديقي العزيز أبا فادي..
خلال تلك الأيام العشرة التي قضَّيتُها في الإمارات، التقيتُ فيها بك بما يكفي من المرات، لاستكمال تفهم الكثير من جوانب شخصيتك بما تمثله من قوامٍ فكري وإنساني ونَفَسٍ وطني، وأنك قد جمعت في صفاتك بين رجل الدولة السياسي العاشق لوطنه، والإنسان المكلوم بالانقسام والتشظي الذي حلَّ بين القوى السياسية وفصائل العمل الوطني.
لقد شعرتُ في تلك اللقاءات بمدينة أبوظبي أنني أمام شخصية وطنية مسكونة باحتياجات أهلنا في قطاع غزة، وأنها قد وطَّنت النفسَ على العمل مع الجميع في السياق الإنساني والإغاثي، وهذا ما يُجلِّى مشهدية أيام الحرب منذ أن فرضت ويلاتها ورسمت ملامح نكبتنا الثانية الكبرى.
الصديق العزيز أبا فادي..
لست أدري إذا كنا سنعيش لرؤية "اليوم التالي" بعد أن تضع الحرب أوزارها، ولكنني واثقٌ بأنَّ وقائع هذه المشهدية ستُسجِّل لك وللإخوة في التيار الإصلاحي الديمقراطي ولدولة الإمارات أنكم من أصحاب الأيادي البيضاء في إغاثة وتعزيز صمود النازحين على أرضهم، رغم أنَّ الكارثة أذهلت الجميع، وباعدت بيننا وبين أحلامِنا عشراتِ السنين من جديد!!
الصديق العزيز أبو فادي،،،
إن اصطفافات الدين والأيديولوجيا وغياب الوعي بالقومي والديني، قد عمَّقت الخلافات بيننا، وهي إشكالية يستوجب العمل على معالجتها بأحاسيس وطنية عالية، وبانفتاح على دروس وتجارب الآخرين من شعوب العالم.
كلمةً أخيرة -أخي أبا فادي- إنَّ الوطن رغم تنافسنا على قيادته، ليس أنا أو أنت، بل أنا وأنت، بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من تمثيلٍ جامعٍ للكلِّ الفلسطيني.
كلمة أخيرة أخي أبا فادي، نتذكرها أنا وأنت.. وهي أنَّ من يفعلِ الخيرَ لا يَعدَم جَوازيه، إذ أنَّ العُرف من فعل الخيرات لا يذهبِ بين اللهِ والناسِ.
وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.