مخيم جنين، والأولويات الوطنية..

الإثنين 13 يناير 2025 02:38 م / بتوقيت القدس +2GMT
مخيم جنين، والأولويات الوطنية..



الكاتب: عبد الغني سلامة:

مرت قرابة الشهر على بدء الحملة الأمنية في مخيم جنين، وما زال الموقف متأزماً، وقد استعصت كل الحلول، وكل طرف متشبث بمواقفه بما ينذر بقدوم الأسوأ.. والمشكلة أن هذه الأزمة لا يمكن أن تنتهي بصيغة منتصر ومهزوم، ولا ينبغي لها ذلك، فعندما يتواجه أبناء البلد بالسلاح كلاهما مهزوم مسبقاً.

بحسب فهمي للمسألة، فالسلطة لا تبحث عن صيغة نصر، فهذه ليست معركتها، السلطة تريد إلقاء القبض على عدد من المطلوبين أمنياً، وهم بحسب بيانات الأجهزة الأمنية مطلوبون على خلفية قضايا أمنية وجنائية.. لكن الحقيقة أنها لا تريد وجود تشكيلات مسلحة خارج إطار القانون، فأي نظام سياسي في العالم لا يقبل بذلك، خاصة إذا أعلنت تلك المجموعة أنها ضدها، وتسعى لتقويضها، وتتهمها بالخيانة والعمالة.
أما كتيبة جنين المتمركزة داخل المخيم، فتقول: إن سلاحها موجه ضد إسرائيل، وإنها تحمي المواطنين من اعتداءات المستوطنين، ومن توغلات جيش الاحتلال (سنناقش مدى جدية وصوابية وواقعية هذا الطرح لاحقاً).. وبعد أن كانت في السنوات السابقة تؤكد على حرمة الدم الفلسطيني، وأنها لا تستهدف السلطة، وتعتبر عناصر وضباط الأجهزة الأمنية إخوة لها، وتصفهم بأبناء البلد، بدأت تغيّر خطابها وسلوكها في الأشهر الماضية، فاستهدفت بالرصاص مقرات أمنية ومؤسسات مدنية تديرها السلطة، وقتلت حتى الآن ستة من رجال الأمن، وخرجت في أكثر من تصريح تصف السلطة بالعميلة، وتتهمها بالتواطؤ مع الاحتلال، وتهدد بضربها، حتى أعلنت صراحة أنها تريد إسقاطها.
في حين يعتقد العديد من أهل مخيم جنين أن السلطة تستهدف المخيم نفسه، وأن الكتيبة تدافع عن المخيم، وقد ظهر ما يشبه التكتل العصبوي المتحد خلف فكرة المخيم، والملتف حوله، وكأنَّ خطراً وجودياً يتهدده (خطر من قبل السلطة)، وهناك أفراد وجهات مستفيدة من هذه الظاهرة وتعمل على تغذيتها.
إذاً، نحن أمام مشهد مركب ومعقد، ويحتاج إلى حكمة وصبر وتأنٍّ لفتح نافذة أمل تفكك هذه الإشكالية، وتصل إلى حلول إبداعية دون سفك قطرة دم واحدة، ودون خسارة المخيم وشبان المقاومة، وتبقي على هيبة القانون والنظام، وتحول دون انفراط عقد الأمن والأمان والوصول إلى حالة الفوضى والخراب. وأظن أن كل إنسان شريف وكلّ وطني غيور يريد إنهاء المعضلة بسلام.
وهذا يتطلب منا جميعاً الترفع عن الخلافات الحزبية وتجميد حالة الجدل حول مشروعية وصوابية كل طرف.
لا يضير السلطة أن تتراجع قليلاً وتقلل من أهمية إلقاء القبض على مجموعة خارجة عن القانون، أو تؤجل ذلك لحين التوصل إلى تسوية مُرضية ومعقولة، وأن تبحث عن مخرج وطني لاحتواء واستيعاب هؤلاء المسلحين بمحاورتهم.
ولا يضير كتيبة جنين أن تقرأ المشهد السياسي في الإقليم، وأن تؤجل قليلاً إعلان الحرب على إسرائيل، وأن تسلّم الأفراد المطلوبين على خلفيات مدنية وجنائية للقضاء، وأن تتحوّل من تشكيل مسلح علني يحمل بنادقه في الشارع وأمام الكاميرات وبشكل استعراضي إلى تنظيم سري لا يظهر سلاحه إلا في الوقت والزمان المناسبَين وضد الاحتلال فقط، وأن يتوقف عن التصريح لمحطات التلفزة بأنه يريد إسقاط النظام، ويتوقف عن خطاب التهديد والتخوين، ويعلن عن تجميد خلافاته مع السلطة أو حصرها في إطار الحوار الوطني وبالوسائل المشروعة.
وعلينا جميعاً كشعب فلسطيني بكافة فصائله وقواه الوطنية، بمدنه وقراه ومخيماته، أن نجمّد خلافاتنا ونتحد سوية استعداداً للعاصفة القادمة التي تستهدف الوجود الفلسطيني بأسره، فهناك خطر وشيك وحقيقي يتربص بنا جميعاً، خطر أهم بكثير من تشكيل مسلح، ومن مطلوبين أمنياً، ومن خلافات في وجهات النظر، ومن هيبة السلطة.. هذا الخطر لا يستهدف جنين، أو المخيم، أو السلطة، أو "حماس"، أو "فتح".. يستهدف القضية الفلسطينية برمّتها في لحظة مصيرية فارقة.
بالنسبة لإسرائيل، فقد وجدت نفسها أمام فرصة تاريخية لم تحظَ بها سابقاً، ولن تتكرر مستقبلاً، فرصة انتظرتها طويلاً، واشتغلت لاستحضارها بتأنٍّ، ولن تفوّتها قبل أن تستنفدها بالكامل، وتستغلها حتى آخرها بكل ما تستطيع من قوة وعربدة.. بدأت باستغلال هذه الفرصة في غزة، مستفيدة من التفويض الدولي والأميركي بأن تفعل ما تريد، ومن الصمت العربي والإسلامي والعالمي على جرائمها، وعجزهم عن مواجهتها، حتى لو بالكلام والتنديد، بل يمكن القول: إن الجميع موافق على كل ما فعلته في غزة ولبنان وسورية، وما ستفعله في الضفة الغربية.
نحن أمام حكومة يمينية هي الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان، وهذه الحكومة تعلن صراحة أنها تريد ضم الضفة الغربية، وتريد فلسطين كاملة بلا فلسطينيين، تريد قتل أكبر عدد منهم، وتهجير الباقي.. وكل ما فعلته في غزة يندرج ضمن هذا المخطط، وهي المرحلة الأولى من إستراتيجيتها، لتنتقل إلى المرحلة التالية في الضفة، وحتى تتمكن من ذلك، عليها إضعاف السلطة أولاً تمهيداً لتقويضها ثم إسقاطها (وهذا ما تفعله منذ سنين)، ولكنها قبل ذلك تريد الحجة والمسوغ القانوني والسياسي والأمني، الذي تعمل على خلقه من خلال نشر الفوضى، والوصول إلى الاقتتال الداخلي، وإظهار السلطة أمام العالم أنها عاجزة عن توفير الأمن، وأنها لا تسيطر على مناطقها، ولا تمثل الفلسطينيين.
وبعد إنهاء السلطة، سيكون من السهل عليها محاربة "المقاومة" (والقضاء عليها) لأنها من وجهة نظر العالم جماعات إرهابية، وتختطف رهائن.. وسيكون بوسعها طرد الفلسطينيين من أرضهم لأنهم مجرد قبائل وعشائر وأحزاب متناحرة وتهدد الأمن الإقليمي.
وما يزيد من خطورة الموقف وجديته تنصيب ترامب، الذي أعلن صراحة أن مساحة إسرائيل صغيرة، وجميعنا يعرف مواقف ترامب وصفقة القرن وموقفه من القضية الفلسطينية، وبشكل خاص موقفه الداعم للاستيطان والضم، ودعمه المطلق بلا تحفظ لإسرائيل.
هل سنواجه هذه العاصفة منقسمين ومتقاتلين؟ وهل بوسع بضعة عشرات من مسلحي الكتيبة التصدي لهذا المشروع الخطير، خاصة بعد الدمار الذي أصاب غزة، وتراجع "حزب الله"، وما حدث في سورية، وانهيار "محور المقاومة" وانكفاء إيران عن المشهد؟
نعم نستطيع المواجهة والصمود ومواصلة المقاومة، على أساس أن الأولوية الوطنية هي بقاء الفلسطينيين فوق أرضهم ومتحدين، وتفويت الفرصة على مخطط التهجير، وهذا يتطلب ترشيد المقاومة وعقلنتها، وأن تكون بوصلتها فقط فلسطين.