يحز في النفس أن يرتقي شهداء من المقاومين وأفراد الأجهزة الأمنية على أيدٍ فلسطينية، في ظل حرب الإبادة الجماعية، وخطة دولة الاحتلال لحسم الصراع، وجرائمها التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها.
لماذا وصلنا إلى هنا؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال من دون البدء بأوهام القيادة الرسمية الضارة، ورهاناتها الخاطئة، واستمرارها بالتمسك بالتزامات أوسلو، بما فيها التعاون مع الاحتلال، في ظل تخلي الحكومات الإسرائيلية عن التزاماتها بأوسلو وقتل ما يسمى "عملية السلام"، على الرغم من الحصيلة المأساوية لخيار المفاوضات، واللهاث وراء تسوية في ظل ميزان قوى مختل لصالح الاحتلال، من خلال الاعتماد على التغيير الممكن في إسرائيل أو الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي.
وكذلك من دون المرور على تخطئة تصور إثبات السلطة أنها عنصر فاعل بتوفير الأمن والاستقرار والسلام لدولة الاحتلال، وراعيتها وداعمتها الولايات المتحدة الأميركية والنظام الإقليمي، وهذا سيجعلها تحفظ رأسها، ويمكن أن تحصل على دور، وربما دولة ترسم على خريطة الشرق الأوسط الجديد الجاري رسمه.
ولا يمكن الإجابة من دون التوقف عند عدم وضوح إستراتيجية المقاومة وتذبذبها بين التحرير الكامل وبرنامج الدولة على حدود 1967، وبين السلطة والمقاومة، بين الوحدة الوطنية وإسقاط وعزل النهج الآخر ورموزه، ومن دون حسم هل الهدف المركزي الناظم لهذه المرحلة هو تحرير الأسرى، أو وقف الاعتداءات على الأقصى، أو رفع الحصار عن قطاع غزة، أو وقف التوسع الاستعماري الاستيطاني، أو السيطرة على المنظمة والسلطة وتمثيل الفلسطينيين وقيادتهم؟
ويضاف إلى ما سبق التعامل مع المقاومة وكأنها الغاية وليست وسيلة لتحقيق هدف، أو كأنها قادرة وحدها، بغض النظر عن موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، على تحرير فلسطين أو الأراضي المحتلة العام 1967، أو أنها مقاومة من أجل المقاومة، وكأن دورها فقط إبقاء جذوة الصراع مستمرة بدلًا من السعي المستمر والمثابر في كل مرحلة لتحقيق هدف وطني كبير توجّه كل الطاقات والسياسات والمقاومة بكل أشكالها لتحقيقه.
توقيت الحملة الأمنية
هذا يوصلنا إلى توقيت الحملة الأمنية التي تنفذ عشية قرب التوصل إلى هدنة في قطاع غزة، ربما تقود إلى وقف حرب الإبادة الجماعية، التي تتزامن مع تولي دونالد ترامب سدة البيت الأبيض، والوقوع في براثن أوهام جديدة بأن ترامب الجديد يختلف عن ترامب القديم، وأن القيادة الفلسطينية إذا اختارت التعامل والتكيف معه بدلًا من المقاطعة، مثلما فعلت سابقًا يمكن أن تتقي شره، أو يمكن أن يوافق على بقاء السلطة في الضفة، وعلى عودتها إلى غزة إذا أثبتت جدارتها، من خلال السيطرة على الضفة قبل استلام سيد الأبيض الجديد مهماته.
لذا، استمعنا إلى تصريحات من مسؤولين على أعلى المستويات في السلطة بأن الحملة الأمنية تستهدف الخارجين عن القانون تارة، والمعارضين للالتزام ببرنامج القيادة تارة أخرى، وهذا أمر لافت يستدعي التوقف عنده.
وتعتقد السلطة أنها ستكون مقبولة لدى ترامب الجديد إذا خفضت السقف الفلسطيني، ووضعت المطالب الفلسطينية المعدلة في سلة/ صفقة المفاوضات الأميركية السعودية الإسرائيلية، التي تهدف إلى التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة، مقابل مفاعل نووي سلمي متقدم، ومعاهدة دفاع مشترك، ودولة فلسطينية أو مسار سياسي يؤدي إلى دولة فلسطينية.
كما تخشى القيادة إذا لم تنجح السلطة في مساعيها لإقناع ترامب باستمرارها وقبولها لاعبًا، من استفراد حكومة اليمين المتطرف بالفلسطينيين قضية وأرضًا وشعبًا، وبالسلطة كذلك التي لا يراد لها أن تبقى؛ لأنها تجسد الهوية الوطنية الفلسطينية الواحدة، وبقاؤها يبقي باب إقامة الدولة الفلسطينية مفتوحًا، وهذا آخر ما تريده إسرائيل.
تخطئ القيادة والسلطة إذا تصورت أن انتصارها على المقاومين سيقويها في مفاوضاتها مع الأميركيين والإسرائيليين، أو سيحسن الصفقة السعودية، بل على العكس، فالقضاء على المقاومة يضيق هامش المناورة أمام الفلسطينيين ولا يبقي ما تخشاه تل أبيب وواشنطن.
كما سيعزز القضاء على المقاومة معسكر المطالبين داخل دولة الاحتلال بالتخلي عن السلطة وإقامة إدارات محلية بدلًا منها، أو الضغط باتجاه استكمال تحولها لتتحول إلى سلطة عميلة وكيلة لتنفيذ مخططات الاحتلال من دون دور سياسي ولا تمثيل للشعب الفلسطيني، وأقصى ما يمكن أن تحصل عليه في المعطيات القائمة من دون وحدة فلسطينية فاعلة هو صفقة ترامب السابقة، مع احتمال أكبر أن تكون أسوأ. وللتذكير فإنها كانت تتضمن دولة ولكن من دون دسم، أي بلا مقومات الدول، حيث تفتقد إلى السيادة، فضلًا عن اقتطاع 30% من مساحة الضفة وضمها إلى إسرائيل.
الأولوية لترتيب البيت الفلسطيني
ترتيب البيت الفلسطيني هو الرد الواقعي والمسؤول على كل التحديات والمخاطر، الذي يمكن أن يحسن جوهريًا شروط الصفقة السعودية أو يمنع إتمامها، انطلاقًا من أن الرياض الآن أقوى ما كانت عليه في فترة ترامب الأولى، وعلاقاتها مع الصين وروسيا وبقية دول العالم أفضل بكثير مما كانت عليه، ما يعطيها هامشًا للقيام بدور في ظل التوازنات الدولية.
وهناك مؤشرات عن كون الرياض تطمح إلى القيام بدور ليس مجرد ملحق لإسرائيل في الشرق الأوسط الجديد، وبذلك لم تعد بنفس الدرجة بحاجة إلى الأسلحة والمفاعل النووي ومعاهدة الدفاع المشترك، لا سيما في ظل تحسّن علاقتها بإيران بشكل كبير، وتقليم مخالب طهران بعد سقوط نظام بشار الأسد وخروجها من سوريا. فعلى الأقل هناك اجتهادات مختلفة في الرياض ومسؤولية الفلسطينيين أن يدعموا الاتجاه المؤيد لقيام دولة فلسطينية بوصف ذلك شرطًا للتطبيع، ولا يكتفي بمسار يؤدي إلى الدولة وهو لن يؤدي إليها أبدًا.
إذًا، الأولوية لترتيب البيت الفلسطيني، وتوحيد النظام السياسي وتفعيله، وبلورة قيادة واحدة وقرار واحد، والتمسك ببرنامج الحد الأدنى الذي يتسلح بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ويتضمن في جوهره إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال الوطني.
مطلوب إستراتيجية صمود وبقاء القضية حية
ويمكن تحقيق ذلك من خلال ما يأتي:
أولًا: تبني إستراتيجية صمود تضمن بقاء الشعب وثباته على أرضه، وإبقاء قضيته حية، وتمسكه ببرنامج الحد الأدنى الوطني. وهذا الأمر في حد ذاته إستراتيجية وطنية مناسبة جدًا في هذه المرحلة، كونها تهدف إلى منع الاحتلال من تحقيق أهدافه، خاصة أن هذه المرحلة هي مرحلة دفاع إستراتيجي وليست مرحلة هجوم إستراتيجي، ويجب أن يسعى الفلسطيني فيها إلى تغيير موازين القوى بشكل تراكمي تدريجي.
وفي هذه المرحلة، من المناسب الاحتفاظ بما لدينا من نقاط قوة ومكاسب انتظارًا لتغير الظروف، وهي ستتغير حتمًا، وما يقتضيه ذلك من التمسك بحقنا في المقاومة، وانتقالها إلى العمل السري عبر مجموعات صغيرة منتشرة في عموم الأرض المحتلة، واعتمادها قواعد حرب العصابات و"اضرب واهرب"، مع الابتعاد عن العلنية والاستعراضية، وعدم الانجرار إلى الاقتتال مهما كانت الظروف، فضلًا عن الكف عن التعامل مع المخيمات والبلدة القديمة في نابلس وغيرها على أنها مناطق محررة، لا سيما بعد الاستخدام الواسع للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والمسيرات.
كما أن مثل هذا العمل العلني للمقاومة ومن دون إستراتيجية واضحة ولا وفاق وطني يساعد على توفير أرض خصبة للصدام مع السلطة (التي بحاجة إلى تغيير شكلها والتزاماتها وموازنتها لتناسب عدم وجود عملية سياسية ومتطلبات المواجهة)، ولا ينسجم مع موازين القوى المختلة لصالح الاحتلال، كما تدل حصيلة خسائر الهجمات التي تشنها قوات الاحتلال ومقارنتها بحصيلة الخسائر الإسرائيلية. فالفرق هائل ولا يقتصر على عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين، وإنما تضاف إلى ذلك عمليات التدمير والتهجير المنظم كما يحصل في قطاع غزة، وفي الضفة حيث تتركز أساسًا على المخيمات لما تمثله وترمز إليه، وكونها قواعد صلبة للمقاومة وتوليد المقاومين.
ثانيًا: أي عمل مقاوم منظم بمختلف الأشكال للاحتلال حق وواجب وشرف، ولكن يجب أن يأخذ طبيعة المرحلة واحتياجاتها وموازين القوى، وأن المقاومة عمل سياسي بشري واعٍ وليس صنمًا مقدسًا، ومن يمارسه بشر يخطؤون ويصيبون، فهو شأنه شأن أي عمل إنساني بحاجة إلى تقييم مستمر وقابل للصواب والخطأ، وخاصة للحسابات والأهداف، ويمكن أن يكون مناسبًا في لحظة وغير مناسب في لحظة أخرى، حيث يكون التركيز على المقاومة المسلحة مناسبًا في وقت وغير مناسب في وقت آخر، وتكون شكل النضال الرئيسي أو أحد أشكاله فقط.
أي يجب أن تكون عمليات المقاومة مدروسة، ولا تدفع إلى حسم الصراع من خلال عمليات استشهادية تستهدف المدنيين، لأسباب أخلاقية إنسانية وفي وقت تكون فيه غير قادرة على حسمه فيحسمه الاحتلال.
على سبيل المثال، أي دفاع عن النفس في مواجهة اعتداءات من قوات الاحتلال أو من قطعان المستوطنين المسلحين أثناء اعتداءاتهم عمل مشروع، ويمكن أن يؤدي إلى ردعهم وجعلهم يفكرون أكثر من مرة قبل العدوان على منازل الفلسطينيين وأراضيهم وممتلكاتهم. أما إطلاق الرصاص على سيارة عسكرية محصنة أو برج محصن أو على مستوطنة من مسافة بعيدة أمر غير صحيح، لأنه يستدعي ردة فعل فورية تؤدي إلى خسائر كبيرة من الفلسطينيين من دون خسائر تذكر في صفوف المحتلين.
ثالثًا: أن دولة إسرائيل تمارس الإبادة والإرهاب وكل أنواع الجرائم، وتعمل على إقامة "إسرائيل الكبرى"، ولا توافق على التسويات والحلول الوسط، وبذلك لا بديل من المقاومة بكل أشكالها.
ولكن المقاومة حتى تحقق أهدافها يجب أن تستند إلى إستراتيجية وطنية مسلحة بتوافق وطني، يشمل توقيتها وشكلها وأهدافها، وتستند إلى عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي؛ أي تمتنع عن استهداف الأطفال والنساء والمدنيين، وتميز نفسها عن الفوضى والفلتان الأمني والخارجين عن القانون، ولا تستهدف أي هدف فلسطيني، مثل مقرات السلطة مهما كانت الأسباب.
ليس هناك أسوأ من الاقتتال الذي يفتح طريق الحرب الأهلية التي إذا اندلعت لن تبقي ولا تذر، وعلى المقاومة أن تبتعد عن أي عمل ارتجالي يمارس من قبيل الثأر أو لصالح تنظيم أو مجموعة أو مركز قوى، أو لصالح أجندات إقليمية خارجية تمكن العدو من البطش بالمقاومة والمقاومين، وتمكنه من تنفيذ مخططاته المعادية.
على الفلسطينيين إدراك أنَّ انتصار المقاومة الحاسم بحاجة إلى حدوث تغييرات فلسطينية وإقليمية ودولية نوعية توفر العمق اللازم لانتصارها، فهي تشاغل العدو وتحقق ما يمكن تحقيقه حتى تتوفر اللحظة المناسبة لتحقيق دحر الاحتلال، لذا فإن انفتاحها الإقليمي والدولي مهم جدًا حتى تبقى وتصمد وتنتصر، فالقضية الفلسطينية عادلة وجامعة وقابلة للاستخدام من كل الأطراف، وهي المركز، ولا يجب أن تكون في جيب أي محور.
وأد الفتنة ضروري قبل فوات الأوان
تأسيسًا على الآراء السابقة، وإذا قام الفلسطينيون بما يجب أن يقوموا به، يمكن وأد الفتنة الداخلية في مهدها، وضروري القيام بذلك قبل فوات الأوان، وذلك من خلال وقف الحملة الأمنية، وسحب المظاهر المسلحة من الطرفين، ووقف الحصار، وانتشار المقاومين ونزولهم تحت الأرض، وانضباطهم للإستراتيجية الوطنية التي سيخرج بها الحوار الوطني الشامل، الذي يجب ألا يقتصر على الفصائل، وإنما يضم الحراكات والفاعلين وممثلي التجمعات المختلفة، مع التركيز على المرأة والشباب. حوار لا يتناول جنين فقط، وإنما الوضع الفلسطيني الراهن كله، وكيفية مواجهة التحديات والمخاطر وتوظيف الفرص التي هي متاحة وأقرب مما يظن الكثيرون.