تواصل الأوساط المختلفة في إسرائيل محاولات فهم أسباب وملابسات الزلزال الكبير في سوريا، واستشراف تبعاته وانعكاساته على الدول المجاورة والمنطقة والصراع الدائر فيها، فيما تستعد لالتهام المزيد من أراضي الجولان.
في أول رد فعلي على أرض الواقع، قام جيش الاحتلال أمس بقصف مطارات وقواعد عسكرية سورية ضمن “إجراءات احترازية لمنع سقوط سلاح إستراتيجي بيد الثوار”، وباحتلال قمم جديدة من جبل الشيخ السوري.
واليوم، وفق تصريحات سياسية وتسريبات إعلامية، سيواصل جيش الاحتلال قضم المزيد من المناطق الحدودية في الجولان التي عرفتها اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1974، عقب حرب تشرين، وتوسيعها لعرض عدة كيلومترات.
رسمياً، تدّعي إسرائيل، مبررة قرار الكابينت، بأن احتلال هذه المناطق السورية، ومناطق الحرام، جاء لمنع دخول الثوار والجهاديين مستوطنات الجولان، كواحدة من دروس السابع من أكتوبر، لكن هناك غاية غير معلنة تكمن بالطمع في الاستيلاء على أراضٍ سورية تمتاز بقيمة إستراتيجية عسكرياً واقتصادياً وسياحياً.
وفي إسرائيل، تبدي أوساطٌ رسمية وغير رسمية مشاعر تشفٍّ وشماتة بنظام الأسد بسبب علاقته مع محور المقاومة والسماح لإيران ببناء نفوذ في الأراضي السورية، واستخدامها همزة وصل لإيصال الأسلحة والدعم لـ “حزب الله” في لبنان.
وينعكس ذلك في عناوين صارخة في معظم الصحف العبرية المطبوعة، غداة يوم سقوط الأسد. يبرز ذلك في صحيفة “يديعوت أحرونوت” التي تنشر على صفحتها الأولى صورة كبرى لأوراق دومينو، وفي مقدمتها يبدو الأسد، ومن خلفه السنوار، ونصر الله، والضيف، وهنية، في حالة تهاوٍ متتالٍ، وفي أسفله عنوان بالأحمر: “نهاية عصر الجزار من دمشق”.
وهكذا هو كاريكاتير صحيفة “هآرتس”، وفيه يبدو المرشد الإيراني الأعلى خامنئي أمام تلفزيون وهو يقول: “راحت حماس، وراح حزب الله، وسوريا راحت”، ويرد عليه أحد قادة إيران معقباً: “بقينا مع الحوثيين”.
“الثورة السرية”
في المقابل، تختار صحيفة “هآرتس”، بأسلوبها المعهود، عنواناً هادئاً مفاده: “نهاية حكم الأسد”، وهي الأخرى كبقية أوساط المراقبين والمحللين، تنشغل أولاً في سؤال الماضي، ومحاولة فهم وهضم كيف ولماذا حصل هذا السقوط السريع للأسد.
ويتبنّى المعلق السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت” ناحوم بارنياع الفكرة بأن السقوط بدأ قبل سنوات كثيرة ضمن مسيرة أو صيرورة، ولذا يسميها “الثورة السرية”. ويقول إن السقوط جاء نتيجة أن هيكل الدولة السورية كان ينخره الفساد، ولأنه لم يجد من يساعده في لحظة الحقيقة.
ويشير بارنياع إلى أنه تحدّثَ للسفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، وهو محاضر وباحث في جامعة تل أبيب مختص بالشؤون السورية، فقال السفير: “نعم، فوجئت من اندفاعة المتمردين، ومن نجاحهم الفوري، ومن سرعة انهيار النظام. في 2015، أنقذت إيران وروسيا و”حزب الله” النظام. هذه المرة لا. هكذا سقطت، وبسرعة، دول شرق أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة. يسقط النظام بسرعة عندما تكون الدولة فاشلة… والأسد قبل ذلك نجا في الحرب الأهلية، ولم ينتصر فيها”.
أثر الفراشة
استمراراً لهذه الفهم، يرى زميله في ذات الصحيفة المعلق السياسي آفي سخاروف أن هذا السقوط المدوي هو “تأثير الفراشة”، أي أن تغييراً طفيفاً في الظروف يؤدي إلى تغيير كبير في النتيجة، مستعيراً بذلك مصطلحاً من الفيزياء ولغة الأدب. فيدعي إن مسيرة السقوط بدأت في السابع من أكتوبر، عندما فرض يحيى السنوار بكلتا يديه ضربة هي الأصعب على محور المقاومة، انتهت حالياً بانقلاب على الأسد، وتفكك عسكري في “حزب الله”، فيما تبدو إيران اليوم مكشوفة لضرب منشآتها النووية الآن.
سقوط بالتدريج
من جانبه، يرى المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل أن الحدث التاريخي الجلل هو نتيجة عدة عوامل، منها ما هو عميق، ومنه ما هو فوري، ومنه ما يرتبط بسوريا ونظامها وثورتها منذ 2011، ومنها ما له علاقة بمحور المقاومة، وتراجع قوة إيران وروسيا. يقول هارئيل إن السقوط جاء بالتدريج ثم في ضربة خاطفة… حيث تم الانهيار في غضون سنوات، وخلال عشرة أيام.
الخيانة الكبرى لطهران
في المقابل، وفي إسرائيل أيضاً، هناك من يشير إلى “خيانة طهران”، كما يقول محرر الشؤون الاقتصادية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” تسفيكا بلوتسكر إنه بعدما “أدارت ظهرها هذه المرة للأسد، ربما تتجه الآن للداخل لإنقاذ اقتصادها، بدلاً من الانخراط في حروب مكلفة من شأنها الانتهاء بهزيمة”.
ومقابل الفرح، هناك مخاوف وتوجّس في إسرائيل من المستقبل. فضمن قراءة دلالة الأحداث الدراماتيكية في دمشق، يرى عاموس هارئيل، في مقاله المذكور، أنه بالنسبة لإسرائيل فإن ضربة محور إيران هي بشرى سارة لها، لكنها ستنبت مصاعب جديدة من جهة منظمات المتمردين لأن أحداً لا يعرف كيف تكون وجهتها.
وفي ما يتعلق بالتبعات على الداخل الإسرائيلي، يعرب هارئيل عن مخاوف أوساط إسرائيلية أخرى من أن يستغل نتنياهو أحداث سوريا للتهرّب من محاولات الدفع نحو صفقة تبادل مع “حماس”.
فشل استخباراتي جديد
ويوجه محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفتي “نيويورك تايمز” و”يديعوت أحرونوت” رونين بيرغمان تساؤلات وانتقادات حول فشل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في توقّع السقوط السريع، مشيراً إلى العجز عن قراءة الصيرورات مقابل النجاحات في كشف أسرار عملياتية عينية لضرب قاعدة عسكرية أو مخزن صواريخ أو اغتيال، إلخ.
ويقول بيرغمان إن خطة الضربات العشر للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لضرب محور المقاومة “موضوعٌ سيدرس في الكليات العسكرية في العالم، لكن الفشل في استشراف هجمة المتمردين ونجاحاتهم الزاهرة وسقوط الأسد إخفاق خطير”.
ويضيف: “فوّتت إسرائيل حدثاً إستراتيجياً جوهرياً، وحقيقة أن الحدث التاريخي فاجأ أيضاً إيران و”حزب الله” والأسد نفسه ليس عزاءً لنا. من حظنا أن ذلك حدث الآن، وليس بعدما قمنا بوضع مسؤولية منع دخول سلاح إيراني للمنطقة بيد الأسد الذي انهار خلال 11 يوماً”.
أسئلة اليوم التالي
بعد الانشغال بأسئلة كثيرة عمّا حصل في سوريا، وما توقعه وما لم يتم توقعه، تنشغل هذه الأوساط الإسرائيلية بأسئلة المستقبل، ومنها: هل تبدأ الآن فترة الفوضى المضرة، أم ولادة نظام حكم جديد يكون هو الآخر معادياً لإسرائيل؟ أم بدء “شرق أوسط جديد” وطرح التطبيع الشامل والانخراط في المنطقة العربية؟
أسئلة كثيرة عن المستقبل، بعضها مرتبط بأجوبة أسئلة الماضي، تشغل الجانب الإسرائيلي: هل تنجح قوى المعارضة في أن تتفق على حكومة انتقالية، وعلى دستور، وعلى انطلاق عصر جديد؟ هل تقوم دولة ديمقراطية في دمشق؟ ماذا عن القواعد الروسية في سوريا؟ هل تتمكن إيران من تهريب سلاح للبنان لدعم “حزب الله”؟ هل تتفق إيران على ذلك مع تركيا كجزء من تعويض أنقرة لطهران على دورها في سقوط حليفها الأسد؟
حالياً، يعكس كاريكاتير “يديعوت أحرونوت” أمنيات إسرائيلية، حيث يظهر خامنئي يقود سيارة تحمل صاروخاً ويعترض طريقه تمثال للأسد ملقى مهشماً في عرض الشارع، فيقول جهاز “الويز”: “يجب إعادة رسم مسار الطريق من جديد”.
ومن ضمن الأسئلة الملحة المنتشرة لدى جهات إسرائيلية في اليوم التالي: هل ينجح قادة المعارضة في التوافق على حكومة مؤقتة برعاية عربية أو أممية؟ وهل تبقى إسرائيل مستفيدة من سقوط الأسد في المدى البعيد؟ أم أن ذلك سيعود لاحقاً عليها كيداً مرتداً؟
في محاولة لاستشراف سوريا ما بعد حقبة حكم استبداد لعائلة الأسد منذ 1970، يوضح محلل الشؤون الشرق أوسطية في صحيفة “هآرتس” الدكتور تسفي بارئيل أن كل فصيل مسلح سيحاول إملاء مستقبل سوريا، زاعماً أن هناك من سيسارع لفرض حقائق على الأرض، وأن المصاعب الاقتصادية ربما تؤشر لدول الغرب الطريق للتأثير على صياغة مستقبل سوريا.
وما يغفله مراقبون إسرائيليون عن قصد، وربما من غير قصد: هل تنجو سوريا الآن من سيناريو ليبيا ومن مخططات غربية وأمنيات إسرائيلية كيدية لتقسيم سوريا إلى دول طائفية متناحرة كي لا تكون دولة قومية متطورة وديمقراطية؟ كذلك يكاد يغيب السؤال: هل تقع هزات ارتدادية في دول الجوار العربية وغير العربية؟
صفقة تبادل الأسرى
يبدو أن الدراما التلفزيونية السورية التاريخية المتميزة بجودة إنتاجها وإخراجها تتفاعل على أرض الواقع أيضاً، وربما يكون ما حصل الحلقة الأولى أو البداية، والحلقات القادمة تحمل تطورات ومفاجآت هامة.
في هذا الإطار، ربما يحاول نتنياهو الآن، وبعد كل هذه التطورات منذ السابع من أكتوبر، ومع دخول ترامب الوشيك للبيت الأبيض، توجيه ضربة لمنشآت إيران النووية للعودة للتاريخ ولسدة الحكم.
ومن المرجح جداً فعلاً أن يقدم نتنياهو على ذلك، طمعاً بتحقيق مكسب نادر لإسرائيل ولنفسه ولائتلافه، كي يبقى في التاريخ وفي سدة الحكم بعدما غمرته سيول “طوفان الأقصى” وسترسله إلى خزانة الأرشيف، طبقاً لاستطلاعات متتالية تفيد بأن الإسرائيليين حتى الآن لم يغفروا له الفشل الإستراتيجي في السابع من أكتوبر.
تزداد أطماع نتنياهو في ظل مزايدات عليه من اليمين ومن اليسار ومن المعارضة التي تتهمه بالعجز والجبن في استنكافه عن ضرب مفاعلات إيران النووية، كما يؤكد مجدداً وزير الأمن السابق نائب رئيس حزب “يسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان للإذاعة العبرية، صباح اليوم، الإثنين.
يتنبه المحلل الإسرائيلي هارئيل أيضاً إلى احتمال اغتنام رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو نتائج الحرب والهزة الأرضية في سوريا من أجل القيام بعملية كبيرة في إيران بغية تدمير منشآتها النووية.
كما يعرب زميله بيرغمان عن مخاوف أوساط إسرائيلية أخرى من أن يستغل نتنياهو أحداث سوريا للتهرّب من محاولات الدفع نحو صفقة تبادل مع “حماس”.