رغيف خبز يتحدث عن نفسه في غزة..

السبت 07 ديسمبر 2024 08:52 ص / بتوقيت القدس +2GMT
 رغيف خبز يتحدث عن نفسه في غزة..



كتبت شوقية عروق منصور:

يقول السيد المسيح “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان”، وذلك قول لا مراء فيه ولكن السيد المسيح أكد في ذات القول أن الانسان لا يحيا بدون الخبز وأن الخبز أولاً فهو الذي يمثل الأمن الغذائي.
أذكر عندما كنا في المدرسة الابتدائية طلبت منا المعلمة أن يكون موضوع الانشاء بعنوان “رغيف خبز يتحدث عن نفسه” وأخذنا نسخر ماذا سيقول الرغيف، لكن المعلمة قالت أنه يتحدث عن نفسه عندما كان حبة قمح وكيف تم زرعه و حصده وكيف أخذه الفلاح إلى المطحنة، وكيف تحول إلى طحين، والطحين اشترته الأم من الدكان ثم عجنته وقدمته أرغفة للأبناء على مائدة الطعام. رحلة حب بين النار والعجين، بين معدة الانسان وشهوة ضم الرغيف، بين تنهد الجوع والحُلم بشبح الرغيف.
سمعناها من أبي وهو يقول ” أنا بركض والرغيف يركض ” وكان أبي اللاجئ كلما تركنا وراءنا بعد تناول الطعام بعض فتات من الخبز يبدأ بإعطاء دروس اللجوء والجوع، وكيف كانوا ينامون والجوع ينخر معدهم.

وعندما كانت جدتي تخبز أمام الطابون جاء من يصرخ بأعلى صوته معلناً استشهاد ” عمي” مما دفعها لرمي نفسها فوق الجمر، وعاشت ويديها خرائط من التجاعيد تدل على لحظة فقدت فيها أعز ما لديها في الحياة، وبقيت تلك التجاعيد تحفر في الذاكرة صوراً تتحدى الواقع الذي يحيا على الرفاهية، وفي المرحلة الثانوية قرأت رواية ” الرغيف ” للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد الذي تعد من أروع الروايات الإنسانية التي تتحدث عن الجوع في فترة الحرب العالمية الأولى.
وسقطنا في وجع الرغيف الهارب، حيث في غزة أصبح رغيف الخبز حلماً، نعم الصورة ليست بحاجة إلى سجل فكاهي، بل هي صورة تسحب خلفها ألماً وخوفاً وصراخاً وجوعاً وحروفاً تلعن عنجهية الساسة والسياسيين، تلعن صمت الانسان أمام جوع الانسان.
في عالم التواصل الاجتماعي لم يعد العالم قرية صغيرة كما قالوا، بل أصبح العالم حارة صغيرة وضيقة جداً، نطل من نوافذ بيوتنا على بيوت الجيران فنجد أنفسنا داخل غرف نومهم ومطابخهم ونعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنفسهم.
أقول في عالم التواصل الاجتماعي كانت الصور القادمة من قطاع غزة تقدم لنا الوجه الشرس الوحشي والجنوني للحرب، تقدم لنا سرعة حمل الجثث ولفها بأقمشة وحرامات ملونة، لم يعد اللون الأبيض متاحاً هناك، لأنه أصبح نوعاً من الرفاهية أمام أرقام الذين يقتلون – يستشهدون -، ورفاهية اللون الأبيض دخلت في الضباب، لأن كل شيء تحول إلى اللون الأحمر أو الأسود أو الرمادي، عدا عن اختفاء اللون الأبيض من محلات الاقمشة التي كانت متواجدة.
ويبقى أصعب الألوان عندما يكون الصراخ والأيدي الممدودة في طوابير الجوع، تلك الطوابير التي تحمل الطناجر والصحون، وجميع أشكال الأوعية تنتظر من يمد ويسكب لها القليل من الطعام.
أما صورة رغيف الخبز فهي الصورة الواسعة التي تغطي الشاشات وتشهق فزعاً، تلعن القرارات والجمعيات والمؤسسات والدول وكل مرايا الذل العربي قبل مرايا الأجنبي.
أصبح الحصول على رغيف الخبز نوعاً من الهم اليومي والقلق النهاري والليلي، عدا عن ارتفاع سعر كيس الطحين بشكل جنوني، وعدا عن طوابير الخبز التي أصبحت تركع أمام المخابز ساعات طويلة حتى تحصل على بضع أرغفة، حيث يشعر الانسان أنه أصبح مساحة من الحلم فيها انتهاء معارك وجولات الحصار على تواجد الرغيف.
أحد أساتذة الجامعات في غزة بكى وهو يحرق كتبه لكي تقوم زوجته بخبز العجين، حيث لم يجد شيئاً يشعل به النيران .. لم يجد إلا مكتبته الضخمة، لو هذه الصورة التي نشرها وهو يلقي بالكتب داخل النيران لقامت القيامة في الغرب واعتبروه إنساناً قاسياً وغير متحضر.
هل تذكرون المغنية فيروز الصغيرة في فلم ” ذهب ” مع الفنان أنور وجدي حيث كانت فقيرة ووجدت على الأرض ” ريالاً ” وأخذت تغني ” معانا ريال … معانا ريال ” تذكرت فيروز الصغيرة عندما رأيت الطفلة تنادي والدها بأعلى صوتها يا با ” معاي رغيف … معاي رغيف ” .
 أحد الأصدقاء عندي على الفيس خطب إحدى الفتيات، وقد كانت هديته لها ربطة خبز ..!! وكم كانت العروس فرحة ” بربطة الخبز ” إنها ليست نكتة فأنت في الزمن الغزي الصعب، الزمن الذي يحتفظ بحقه في ادانة التاريخ غداً، الزمن الذي يتوهم أنه سيموت بعد انتهاء الحرب والعدوان على غزة والتوقيع على أوراق اللعب السياسي .
الزمن  سيبقى شاهداً على رغيف خبز كبر وتحول إلى مدن وخيام ومدارس إيواء، رغيف خبز لم يتكون من طحين وخميرة والقليل من الماء، بل هو الرغيف الذي تعمد بالانتظار والجوع والدماء .
كاتية فلسطينية