يرى مستشرق إسرائيلي خبير بالشؤون اللبنانية والسورية، البروفيسور إيال زيسر، المحاضر في جامعة تل أبيب، أن إسرائيل أوقفت الحرب في لبنان مبكراً، ويقول إن العد التنازلي لحرب لبنان الرابعة قد بدأ هذا الأسبوع، داعياً لصياغة خطط وقرارات أكثر نضجاً وفعالية.
في مقال نشرته صحيفة “معاريف”، قبيل تجدّد تبادل النار مساء أمس، يقول إيال زيسر: “ها قد انتهت حرب لبنان الثالثة، هذا بافتراض أنها لن تعود لتندلع مع دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في أواخر كانون الثاني/يناير 2025. إذ من المفترض أن تنتهي المرحلة الأولى، الاختبارية، من تطبيق اتفاقية التسوية بين لبنان وإسرائيل”.
كما يقول المستشرق الإسرائيلي إنه بينما يحتفل “حزب الله” في لبنان بما وصفه بـ”انتصاره”، بحسب تعبير أمينه العام نعيم قاسم بقوله: “لقد صمدنا أمام محاولة القضاء علينا، وبناءً عليه، نحن المنتصرون”، تسود في إسرائيل حالة من المرارة تفوق تلك التي عاشتها في ختام حرب لبنان الثانية، عام 2006.
وفي نطاق المقارنة، يضيف زيسر: “دخلنا حرب لبنان الثانية من دون أن نملك معلومات استخباراتية دقيقة عن “حزب الله”، ومن دون أن تتوفر لدينا دفاعات ضد الصواريخ التي أطلقها علينا، ومن دون إيماننا بقدرة القوات البرية على مواجهته. هذا كلّه أجبر إسرائيل، آنذاك، على التراجع والاكتفاء بالقرار 1701، وهو قرار مليء بالثغرات، كان واضحاً أن “حزب الله” لن يلتزم به. في هذه المرة، كانت نقطة انطلاقنا مختلفة، ومع ذلك، فإننا ننهي هذه المعركة ويغمرنا شعورٌ بالخيبة. ربما لم يكن لدينا خيار آخر، لكن يجب ألّا يكون لدى أيّ منّا أوهام بأن لبنان صار مختلفاً الآن، أو أن الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني سيرغبان في ترويض “حزب الله”، أو سيتمكّنان من ذلك، أو أن قوات اليونيفيل، وأمثالها، الذين أخفقوا في مهمتهم على مدار العقدين الماضيين، سينجحون فيها هذه المرة”.
تفويت الفرصة
ويرى زيسر أنه من الأفضل عدم محاولة التنبؤ بما سيحدث في المستقبل، لكن على الجانب الإسرائيلي محاولة إدراك سبب تفويت الفرصة التي أتيحت له لحسم المعركة ضد “حزب الله”. ويعلل ذلك بالقول: “بدأت عملية سهام الشمال (التي لم يُطلق عليها حتى اسم حرب في الجيش الإسرائيلي) في أيلول/سبتمبر 2024، وانتهت بشكل مفاجئ. كان ذلك نتيجة عدد من الأحداث على طول الحدود، أو في الساحتين السياسية والدبلوماسية داخل إسرائيل. بناءً على ذلك، دخل الجيش الإسرائيلي المعركة بهدف الحد الأدنى – إعادة سكان الشمال إلى منازلهم، وبالتالي وضع خطة متواضعة خالية من المخاطر، في ظل الخوف الشديد من “حزب الله”، والذي ساد آنذاك. كانت المعركة ترتكز بشكل أساسي على احتكاك محدود بـ “حزب الله” على طول الحدود، وتوجيه ضربة وقائية إلى قدراته”.
في المقابل، يعتقد زيسر أنه منذ اللحظة التي اتضح فيها أن خوف إسرائيل من “حزب الله” كان مبالغاً فيه، وبعد أن ثبت خطأ التوقعات الكارثية بشأن قدرته على إطلاق آلاف الصواريخ يومياً، وشلّ الحياة في إسرائيل، والتسبّب بآلاف القتلى، كان من الضروري تعديل أهداف الحرب ومسارها.
ويتابع: “يتعلق الأمر، أولاً وقبل كل شيء، بضرورة فرض ثمن باهظ على الحزب، وعلى الدولة اللبنانية التي تتعاون معه وتوفر له الحماية، ويكسر العمود الفقري للدولة اللبنانية، ويحرمها قدراتها، ويخلق رادعاً يدوم أعواماً طويلة مقبلة”.
وضمن قراءته “البلطجية”، يقول زيسر إن إسرائيل امتنعت عن مهاجمة الدولة اللبنانية ومؤسساتها بسبب الضغوط الأمريكية، أو ربما لأنه يوجد بيننا مَن يعيش في وهم وجود “لبنان مختلف” آخر هناك، غير لبنان “حزب الله”. داعياً للتذكر أن الأصوات القادمة من لبنان، والتي تدّعي أن اللبنانيين، جميعهم، ضد “حزب الله”، ليست سوى صورة زائفة، فهؤلاء لم يتحركوا، ولن يجرؤوا على التحرك ضده.
ويشير إلى أنه يتحدث عن ضرب البنى التحتية ورموز الدولة، وأيضاً الجيش اللبناني، الشريك المتعاون مع “حزب الله”، في معاقل الحزب في الجنوب اللبناني وسهل البقاع. معتبراً أن إسرائيل لم تضرب، تقريباً، الذراع السياسية والمجتمعية للحزب في لبنان، ولا مؤسساته ومشاريعه الاقتصادية، ويتساءل هنا: “لماذا تذكّرنا فقط، عشية إعلان وقف إطلاق النار، تنفيذ ضربة “نهائية” ضد 20 هدفاً في قلب الضاحية، ولم نهاجم بقوة مماثلة، على مدار الشهور الماضية؟”
أهون الشرّين
وبخلاف الوقائع على الأرض، وبعكس تقديرات إسرائيلية أخرى، يدّعي زيسر أنه كان في الإمكان، منذ اللحظة التي اتضح فيها أن مقاتلي “حزب الله” لا يشكّلون تهديداً حقيقياً أمام جنود الجيش الإسرائيلي، بل كان ينبغي، تعميق المناورة البرية إلى عُمق مناطق وجود “حزب الله” في الجنوب اللبناني.
ويمضي في القول: “ربما كان لدى المستوى السياسي أسباب وجيهة للموافقة على وقف إطلاق النار مع “حزب الله”، الأمر الذي منحه طوق نجاة.
لكن يبقى من الصعب الفهم كيف تحوّلت الحرب الوجودية التي خضناها بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر إلى عملية عسكرية محدودة ومقلصة في الساحة اللبنانية. لم يتبقَّ سوى الأمل بأنه عندما تندلع حرب لبنان الرابعة، والتي بدأ العد التنازلي لها الأسبوع الماضي، سنُبارك، ليس فقط لجنود رائعين واستخبارات ممتازة، بل أيضاً لعملية تخطيط واتخاذ قرارات أكثر نضجاً وفعالية”.
يُشار إلى أن هناك جهات إسرائيلية أيضاً ترى أن إسرائيل اضطرت لوقف الحرب في لبنان بسبب المخاوف من كلفتها العالية. من هذه الأوساط الجنرال في الاحتياط يتسحاق بريك الذي أكد، في مقال أمس، أن السبب الوحيد الذي دفع حكومة نتنياهو وقيادة الجيش إلى الذهاب نحو الاتفاق مع لبنان هو عدم قدرة الجيش على إخضاع “حزب الله”، منبهاً إلى أن استعمال سلاح البرّ، المستنزف أصلاً، وقتاً طويلاً في القتال في لبنان، أرغم المستويين السياسي والعسكري على اتخاذ القرار، بعد الإدراك بأن استمرار الحرب سيفكّك الشمال ويجرّ إسرائيل نحو انهيار، فاختاروا “الاتفاق السياسي”، وهو أهون الشرين.