يديعوت أحرونوت - رون بن يشاي وميخائيل ميلشتاين-
أحد إنجازات إسرائيل المهمة في اتفاق وقف النار في لبنان هو فك الارتباط الذي عقده حزب الله بين الشمال وغزة. مجرد موافقة الحزب (وإيران) على قبول وقف نار منفصل في لبنان، يبقي حماس في عزلة وينزع عنها إسناداً عسكرياً حيوياً. مبادئ الاتفاق في لبنان كفيلة بأن تشكل أساساً لتسوية في غزة أيضاً، تسوية تعطي جواباً للمطالب الأمنية الإسرائيلية، وعلى رأسها الحق في منع تعاظم القوة والعمل على إحباط الإرهاب.
مع ذلك، واضح أنه لا يمكن نسخ الاتفاق في لبنان بكامله إلى غزة؛ لأربعة عوامل:
· حاجة إسرائيل الحيوية لإعادة المخطوفين، الأحياء والأموات. هذا عنصر مركزي يميز بين الساحتين ويشكل ورقة المساومة الوحيدة المتبقية لحماس.
· مطلب حماس بوقف القتال وخروج إسرائيل من أراضي القطاع.
· غياب جهة ذات قدرة إنفاذ، بديل للحكم المدني لحماس.
· مطالب إسرائيل بخصوص (اليوم التالي): الأول، ألا يسمح لحماس ببقائها في غزة كجسم منظم أو كجهة عسكرية؛ والثاني ألا تشارك السلطة الفلسطينية في الإدارة والحكم المدني الجديد، الأمر الذي ينبع أساساً من رغبة نتنياهو في منع قيام دولة فلسطينية تضم غزة إلى جانب الضفة، وبسبب تخوفه من تهديدات سموتريتش وبن غفير اللذين يعرفان السلطة كعدو يجب تقويضه.
في الواقع الحالي في القطاع، يمكن الدفع قدماً بتسوية تضمن مصالح إسرائيل الحيوية، تؤكد ألا يعاد بناء قدرات حماس وشركائها على تهديد إسرائيل، وتسمح بعودة سكان الغلاف إلى بيوتهم وأساساً يؤدي إلى تحرير المخطوفين. يستدعي الأمر من القيادة في إسرائيل هجر معارضتها القاطعة للتواجد حتى وإن كان رمزياً للسلطة في غزة والتمسك بـ “الإبادة المطلقة” لحماس في القطاع.
يستند هذا التقدير أولاً وقبل كل شيء إلى الوضع العسكري في القطاع. فقد نجح الجيش الإسرائيلي في تفكيك جيش حماس، باستثناء كتيبة ونصف في دير البلح ومخيم النصيرات للاجئين. الجيش الإسرائيلي يضرب جهود حماس لإعادة تنظيم نفسها عسكرياً ومدنياً في شمال القطاع. ومع ذلك، ربما تعود جهود مشابهة في أماكن لا يتواجد فيها الجيش الإسرائيلي جسدياً. وكما تجسد الحملة في شمال القطاع، فإن حماس وباقي المنظمات تعود للعمل كمنظمات حرب عصابات: خلايا صغيرة تخوض قتالاً صغيراً وأساساً بواسطة العبوات ومضادات الدروع، وتنجح بين الحين والآخر في إطلاق الصواريخ. كل هذا انطلاقاً من التطلع لاستنزاف إسرائيل والاستعراض أمام الغزيين والعالم للصمود.
عملياً، للجيش الإسرائيلي حرية عمل كاملة في كل القطاع، حتى لو لم يسيطر على معظم أراضيه بشكل كامل. فهو يمكنه التحرك بسرعة نحو كل جيوب المقاومة الموجودة أو التي ستنشأ في المستقبل ويصفيها. وحتى حين تخلي القوات شمال غزة، سيكون ممكناً في المستقبل اجتياح كل منطقة في القطاع. لكن بعد انتهاء الحملة في شمال القطاع، بعد بضعة أسابيع على ما يبدو، يكاد لا يكون للجيش الإسرائيلي ما يناور فيه، والأهم من ذلك – لن يكون ممكناً ممارسة ضغط عسكري يساعد على تحرير المخطوفين. الجيش الإسرائيلي لن يسارع إلى المناورة في النصيرات ودير البلح خوفاً على حياة المخطوفين، وكذا في منطقة “المأوى الآمن” في المواصي، لن يعمل برياً خوفاً من رد أمريكي ودولي.
ينبغي ان تضاف إلى هذا حقيقة أن ترامب سيدخل بعد نحو شهرين إلى البيت الأبيض. إذا ما حاكمنا الأمور وفقاً لتصريحاته الأخيرة، فلن تحظى منه حماس بريح إسناد إنسانية كما فعلت إدارة بايدن. لكن نتنياهو وشركاءه في الائتلاف أيضاً لن يحصلوا من ترامب على تأييد لتطلعهم للبقاء في القطاع لزمن طويل، فما بالك للاستيطان فيه من جديد. سيرغب ترامب في إنهاء الحرب في غزة بالسرعة الممكنة، وسيحثه حلفاؤه في العالم العربي على المضي بخطوة سياسية تتضمن حلا ًللأزمة في القطاع.
غزة أصبحت “منكوبة”
حماس الآن في درك أسفل غير مسبوق: الضربة التي وجهت لقيادتها وبناها التحتية البشرية، جعلت غزة “منكوبة”، نحو 80 في المئة من السكان يكتظون في مدينة لاجئين كبرى في الجنوب، والاقتصاد والبنى التحتية المدنية (التعليم، الصحة، الطاقة، الماء) خربت تماماً، والسكان خائفون من مصائب الشتاء.
وينبغي التشديد على أن حماس لا تزال الجهة السائدة في غزة: تتحكم بالمجال المدني في المنطقة، وتقاتل في كل مكان يناور فيه الجيش. وعلى الرغم من تصفية السنوار، ثمة قيادة وسلسلة قيادة تمنع نشوء بدائل، ولا يوجد أي احتجاج جماهيري ضد المنظمة، ما تعتبره إنجازاً مركزياً.
يبدو أن حماس باتت في أعقاب الاتفاق في لبنان، أكثر إنصاتاً لأفكار التسوية. لكن كونها منظمة دينية متزمتة ستبقى متمسكة “بخطوط حمراء”، وعلى رأسها وقف القتال وانسحاب كامل لقوات الجيش من القطاع، وستفضل مواصلة القتال في ظل تعميق التدمير والتقتيل في غزة على تقديم التنازلات. إن العقيدة الإسرائيلية التي تعتقد بأن الضغط والقوة سيلينان حماس، ثبت فشلها منذ أشهر جديدة. كما أن اقتراحات إخلاء حماس من غزة وإغراء الفلسطينيين بتحرير مخطوفين مقابل منح مالية، تبدو محاولة فاشلة حين يؤدي التمسك الإسرائيلي بها إلى إطالة بقاء المخطوفين في الأسر.
هناك ثلاثة خيارات مفتوحة أمام إسرائيل في ظل هذا الوضع:
الأول – استمرار الوضع القائم على أمل أن تحرر حماس المخطوفين ويغادر نشطاؤها غزة مثلما كان في حرب لبنان الأولى في 1982، السيناريو الذي تبدو احتمالاته في هذه اللحظة صفرية. وضع كهذا قد يتحول إلى حرب استنزاف طويلة، وليس واضحاً أنها ستؤدي إلى تقويض حماس، ولن يسمح بتحرير مخطوفين.
الخيار الثاني – احتلال كامل للقطاع، بقاء غير محدود وفرض حكم عسكري. وهذا يتطلب في المرحلة الأولى إدخال ثلاث حتى خمس فرق لمرحلة الاحتلال وتوريد جار لاحتياجات السكان في غزة، ما يعني عبئاً اقتصادياً جسيماً. في البعد الأمني قد ينشأ “عراق”، وضع مشابه لذاك الذي علقت فيه الولايات المتحدة قبل عقدين، حين لجأت بالقوة لزرع تحول ديمقراطي وازدهار اقتصادي في العراق (وفي أفغانستان)، ووجدت نفسها تنزف بالعبوات والقناصة إلى أن اضطرت إلى الانسحاب. في مثل هذا السيناريو، سيتصاعد أيضاً الجهد لاستئناف الاستيطان في القطاع، ما سيثقل عبء الأمن ويفاقم عجز شرعية إسرائيل في الساحة الدولية.
الخيار الثالث – تسوية بإلهام لبناني. في مركزها – إقامة حكم محلي فلسطيني ذي صلة بالسلطة الفلسطينية وبدون مشاركة حماس. ستتشارك في إقامته وتثبيته وتشغيله جهات دولية وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى جانب دول عربية وبخاصة مصر والإمارات والسعودية. قد يجري الجيش ملاحقة استخبارية وثيقة ويحصل على حرية عمل في القطاع كله، لكن لن يكون حاضراً فيه بشكل دائم. ستكون على طول حدود القطاع وداخل أراضيه، منطقة حراسة بعرض نحو كيلومتر لن يسمح للفلسطينيين بدخولها وهي موجودة اليوم عملياً.
الاتفاق في لبنان خلق سابقة ومناخاً، يبدو هذا الخيار الثالث كفيلاً أن يربط فيه بين اتفاق وقف نار أمني معقول وبين إعادة المخطوفين وإقامة أساس لبديل حماس في الحكم. هذا في واقع الأمر الخيار المعقول الوحيد الذي يسمح بتحقيق معظم أهداف الحرب التي وضعتها إسرائيل لنفسها والتفرغ للإعداد للمواجهة الكبرى مع إيران.
الاتفاق قابل للتنفيذ في ثلاث مراحل:
· المرحلة الأولى – صفقة لإعادة المخطوفين الأحياء والأموات لإسرائيل، مقابل تحرير مخربين فلسطينيين. الأمر يتم في إطار وقف نار مؤقت يستمر شهرين، تجرى في أثنائه مفاوضات على تسوية أمنية تتضمن إقامة قوة حفظ نظام وحكماً مدنياً بديل في القطاع – كلاهما على أساس دولي وعربي لا تكون حماس جزءاً منه أو مشاركة فيه. بالتوازي، تبدأ عودة المدنيين الغزيين غير المشاركين إلى بيوتهم في شمال القطاع عبر مرشحات يراقب فيها الجيش و”الشاباك” ألا يتسلل نشطاء حماس عبرها. هذا كفيل بأن يتحقق إذا مورس على حماس ضغط شديد من جانب قطر وأعطيت لها ضمانات لانسحاب الجيش في المراحل التالية.
· المرحلة الثانية (بعد ستين يوماً) – جسم الإدارة المدنية الجديد، الإدارة الأمنية وقوة حفظ النظام التابعة، تدخل إلى العمل. بداية، تتحمل هذه مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية وتقديم الخدمات الحيوية للسكان. بالتوازي، تقيم إسرائيل ومصر والولايات المتحدة عائقاً ومنشأة عبور حدودي جديدة في محور فيلادلفيا ومعبر رفح، تمنع تهريب السلاح ووسائل إنتاجه. وتكون لإسرائيل مراقبة مباشرة وبلا قيد زمني لكل ما يجري في محور فيلادلفيا ومعبر رفح الجديد.
· المرحلة الثالثة (بعد بضعة أشهر) – وقف نار دائم يدخل حيز التنفيذ. الجيش الإسرائيلي ينسحب من أراضي القطاع، ومن محوري فيلادلفيا ونتساريم. أما معبر رفح فيفتح من جديد وتشغله الإدارة المحلية الغزية مع رقابة أمريكية ومصرية دون موطئ قدم لحماس. وبالتوازي، يكمل الجيش الإسرائيلي إقامة منظومة دفاع جديدة على حدود القطاع في مقدمتها “منطقة حراسة” فارغة من الناس ومن المباني داخل أراضي القطاع.