نهاية الطريق: من عقيدة الضاحية إلى حرب الإبادة (1)..

الجمعة 29 نوفمبر 2024 10:04 ص / بتوقيت القدس +2GMT



الكاتب: محمد ياغي:

بإمكان نتنياهو وجنرالاته العسكريين التبجح أنهم تمكنوا من فصل جبهة غزة عن لبنان، وبأنهم وعدوا بإعادة سكان البلدات الإسرائيلية في شمال فلسطين التاريخية إلى بيوتهم بالدبلوماسية أو بالحرب وأنهم تمكنوا من ذلك (بافتراض أن الاتفاق الأخير مع لبنان سيسمح بعودتهم)، وأن كل ذلك يشير إلى التفوق العسكري الكبير لدولة الاحتلال على خصومها، إلا أن ذلك فيه إغفال لحقيقة أن دولة الاحتلال تعاني ضعفا أمنيا بنيويا سيفرض عليها إعادة التفكير في مُجمل سياساتها.

إن مراجعة سريعة لتطور عقيدة دولة الاحتلال العسكرية تكشف لنا حالة الضعف التي تعاني منها، واستحالة التغلب عليها بالوسائل العسكرية.
لقد تبنت دولة الاحتلال بعد قيامها على أنقاض الشعب الفلسطيني عقيدة عسكرية مفادها أن أي حرب مع العرب يجب أن تكون خاطفة، وعلى أرض العدو، وأن الانتصار فيها يجب أن يكون جَليا لا شكوك بشأنه في نظر الخصم والعالم.
تُنسب هذه العقيدة إلى مؤسس دولة الاحتلال بن غوريون، وتجلت بشكل واضح في حرب الأيام الستة العام 1967 وبشكل أقل في حرب أكتوبر 1973 نظرا لنجاح الجيش المصري في عبور قناة السويس وفي حرب لبنان 1982 بسبب طولها حيث استمرت قرابة الثمانين يوما. لكن جميع هذه الحروب جرت على أراضي خصوم دولة الاحتلال، وكان فيها نصر واضح يُمكن لها الإشارة إليه بثقة.
في حرب أكتوبر مثلا، دولة الاحتلال تمكنت عبر ثغرة الدفرسوار من تدمير حائط الصواريخ، وحصار الجيش الثالث المصري، وبفعل ذلك تمكنت من فصل جبهة مصر عن جبهة سورية والاستفراد بالأخيرة. وفي لبنان، الصمود الأسطوري لمقاتلي منظمة التحرير انتهى برحيلهم إلى الشتات وبإنهاء الوجود العسكري الفلسطيني فيه.
لكن حرب العام 2006 مع المقاومة اللبنانية أسقطت بلا رجعة عقيدة بن غوريون. الحرب انتهت دون نصر واضح لدولة الاحتلال، والحرب لم تجر على أرض لبنان وحدها، ولكن أيضا في كريات شمونة ونهاريا وحيفا وعكا. كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ دولة الاحتلال التي يتم فيها إجبارها على طلب وقف إطلاق النار.
خلال حرب العام 2006 قامت دولة الاحتلال بتدمير الضاحية الجنوبية من بيروت، وبعدها بعامين تقريبا، أدخل غادي آيزنكوت، قائد المنطقة الشمالية في حينه، في مقابلة له مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» بتاريخ 3 أكتوبر 2008، مصطلح «نهج الضاحية» – عقيدة الضاحية – للإشارة إلى التغير الجوهري الذي حدث في عقيدة دولة الاحتلال العسكرية بعد الحرب ولشرح الطريقة التي ستتعامل بها دولة الاحتلال مع أي حرب مُحتملة مع «حزب الله» أو الفصائل الفلسطينية المقاومة.
يقول آيزنكوت الذي شغل منصب رئيس شعبة العمليات في هيئة الأركان العامة خلال حرب 2006، إن دولة الاحتلال مُنيت فيها بإخفاقين: الأول، عدم تقصير أمد الحرب، والثاني، إتاحة المجال لـ»حزب الله» طوال 33 يوما لشن هجمات بالصواريخ على العمق الإسرائيلي وبشكل واسع لم يحدث منذ العام 1948.
وبناء عليه يخلص إلى النتيجة التالية «يجب أن يتم حسم الحرب المقبلة، في حال اندلاعها، بسرعة وقوة ومن دون أي اعتبار للرأي العام العالمي.» ويوضح أن ذلك سيكون من خلال «إطلاق نيران تدميرية عالية لسحق القرى اللبنانية التي تنطلق منها الصواريخ... وأن تعرض المدنيين لأضرار كبيرة هو وحده من يردع الأعداء». ويستطرد في شرحه بالقول، «في الصدام المقبل مع (حزب الله) لن نُحمِل أنفسنا عناء اصطياد آلاف منصات إطلاق الصواريخ، ولن نُعرض جنودنا للخطر في محاولات السيطرة على القواعد العسكرية لـ(حزب الله)، بل سندمر لبنان عن بكرة أبيه، ولن نرتدع من احتجاجات العالم».
وفي العام 2009، أعدت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وثيقة تضمنت تقويمها السنوي وأوصت بالامتناع عن خوض حرب استنزاف والدخول في مواجهة واسعة مع خصومها وضربهم بشدة لإنهاء المواجهة في أقصر وقت وبنتائج واضحة قدر الإمكان.
ويمكن تلخيص عقيدة الضاحية التي تبنتها دولة الاحتلال بأنها الاستخدام المفرط وغير المتوازن للقوة النارية بهدف إحداث شرخ بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، ويكون ذلك من خلال القصف الجوي المكثف والدمار الهائل للمساكن والبنى التحتية وإلحاق أضرار مباشرة بالمدنيين.
الأصل في هذه العقيدة أن الاستخدام الهائل للقوة والتدمير للبنى التحتية ستنتج عنه مسألتان:
الأولى، تغير في وعي حاضنة المقاومة الشعبية لجهة الاستسلام لفكرة أن المقاومة عبثية وأنها تجلب الخراب لهم، وفي النهاية الوصول إلى قناعة بأن «العين لا تجابه المخرز» والقبول بالتالي بما يَمنه عليهم «سلام» الاحتلال.
والثانية، أن المقاومة وحاضنتها الشعبية ستنشغلان في إعادة بناء ما دمره الاحتلال، والبناء بحد ذاته «عبء» كبير على المقاومة وحاضنتها بسبب شح الموارد وينتج عن ذلك عدم الرغبة بالتفريط فيما تم بناؤه وبالتالي الخوف من أن أي مواجهة عسكرية جديدة ستؤدي إلى حِمل هذا العبء مجددا.
خوف المقاومة من التشرد والقتل والكلفة العالية لإعادة البناء بالنتيجة، في تقدير دولة الاحتلال، تحقق الردع لأنها تمنع المقاومة من المغامرة بدخول حرب معها.  
لقد طبقت دولة الاحتلال عقيدة الضاحية في حروبها مع غزة مرارا وتكرارا. لقد طبقتها في نهاية العام 2008 فيما سمته عملية «الرصاص المصبوب»، حيث قتلت حينها 1400 فلسطيني بينهم 300 طفل وقامت بتدمير بنى تحتية مهمة منها مطاحن الدقيق والمزارع ومحطات معالجة المياه العادمة ومنشآت المياه والمباني السكنية.
وفي حربها على غزة العام 2012 التي سمتها «عمود السحاب» طبقت الخطة نفسها وقامت بتدمير مستشفيات وجسور ومكاتب إعلامية ومراكز رياضية وبنوك ومزارع ومساجد.
وعادت وكررت الشيء نفسه العام 2014 فيما سمته عملية «الجرف الصامد» حيث قتلت 2000 فلسطيني ودمرت 18 ألف وحدة سكنية بشكل كلي أو جزئي ولاحقا في المعركة التي سمتها «حارس الأسوار» العام 2021 دمرت عددا من الأبراج السكنية.
لكن هذه العقيدة فشلت في ردع المقاومة الفلسطينية كما هو واضح من تكرار المواجهات العسكرية التي حدثت منذ أن تبنتها دولة الاحتلال بشكل رسمي في شهر أكتوبر العام 2008 ولغاية السادس من أكتوبر 2024.
هذا الفشل لم يدفع دولة الاحتلال لتغيير هذه العقيدة لقناعتها بأنها تعمل بشكل فعال، فهي من جهة اعتقدت بأن كل ما تريده «حماس» هو توفير المصادر المالية لها لِحكم غزة وإعادة بناء ما دمره الاحتلال، ومن جهة أخرى بأن الدمار الذي أحدثته في غزة أحدث شرخا بين حركة «حماس» وبقية فصائل المقاومة في غزة بدليل أن «حماس» لم تشارك في المواجهات التي حدثت مع دولة الاحتلال بعد معركة «حارس الأسوار» حيث خاضتها حركة «الجهاد الإسلامي» وبقية فصائل المقاومة. والأهم من ذلك ربما، لأن هذه العقيدة صُمِمت في الأساس للمواجهة مع «حزب الله» وليس مع فصائل المقاومة المحاصرة في غزة والتي لا تمتلك قوة نيرانية تدميرية كبيرة.
السابع من أكتوبر 2024 سينهي مرحلة عقيدة الضاحية، ويفتح الباب لعقيدة الإبادة، وهو ما سنتحدث عنه في المقال اللاحق.