في قصيدته «مأساة النرجس... ملهاة الفضة»، يقول محمود درويش: «كانوا يعيدون الحكاية من نهايتها إلى زمن الفكاهة.. قد تدخل المأساة في الملهاة يوماً.. قد تدخل الملهاة في المأساة يوماً.. في نرجس المأساة كانوا يسخرون من فضة الملهاة، كانوا يسألون ويسألون: ماذا سنحلم حين نعلم أن مريم امرأة؟» (1990).
وفي أمثالنا نقول: «شرّ البليّة ما يُضحك»، وذات مرة، عنون الشاعر علي الخليلي أحد دواوينه بـ»الضحك من رجوم الدمامة» (1977)، ولا شك أنه كان قرأ رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1974)، التي يمزح فيها الجد بالهزل، ويواجه الواقع المأساوي الذي عاشه فلسطينيو 1948 الباقون بالضحك والفكاهة والسخرية، وهو ما عززه حين كتب روايته «لكع بن لكع» (1980)، ودعانا إلى أن نضحك، فقال فيها: «ولولا خوفي من أن ينتبهوا إلى هذا السلاح فيُشرّعوا قانوناً يحظرون به عليكم ماء البحر والضحك لأغرقتكم بالضحك».
وحجة إميل أن الضحك يطلق اللسان ويشفي من خرس.. إنه سلاح ماضٍ ذو حد واحد، وإن قيل لمن يضحك إنه قليل أدب، فمثلنا يقول: «الضحك من غير سبب قلة أدب»، فلنكن قليلي أدب، فشر البلية ما يضحك.. وهل هناك بليّة أكثر مما نعيشه منذ العام 1948؟
وفي غزة، أثناء المقتلة منذ 7 أكتوبر، ثمّة كتابات لم تخلُ من حسٍ ساخر أو فكاهي أو تهكمي أيضاً، وهو ما بدا في كتابات أكرم الصوراني، أو في فيديوات الشاب عبدو بطاح، أو في منشورات من لم ترقَ لهم خطابات أسامة حمدان أو خالد مشعل أو طاهر النونو وغيرهم من قيادات تقيم في الخارج، أو منشورات وفيديوات من تابعوا خطابات نتنياهو وغيره من القيادات الإسرائيلية، وخير مثال على ذلك ما قدمته ليلى عبده، وهي مقدمة برامج من الناصرة، تحت لافتة «شو قالوا بالعبري» وآخرون ممن قرأت لهم بعد طوفان الأقصى، ولم أكن قرأت لهم من قبل.
وأنا أتكاتب مع بعض كتاب قطاع غزة، كتبت لهم، إنه إن كان لهذه المقتلة والمهلكة من إيجابيات، ومن المؤكد أن لها إيجابيات على الرغم من المآسي الكثيرة غير المحتملة، فمنها أنني تعرفت إلى جيل جديد من كتاب غزة لم أقرأ له من قبل، وأسهمت في إعادة نشر نتاجه الأدبي والتعريف به في مواقع إلكترونية أو في صفحتي في الفيسبوك.
في الحرب، تعرفتُ إلى كتابات أكرم الصوراني، ومريم قوش، وآلاء القطراوي، وناصر رباح، ويوسف القدرة، ويسري الغول، وآخرين كثر.
قبل الحرب، لم أكن قرأت لأكرم الصوراني أي نص، علماً أنه أصدر ثلاثة كتب عرفها كتاب غزة وحاوروه فيها واستمعوا إليه يقرأ منها، وكتبه الثلاثة ساخرة في أسلوبها، وهو ما يبدو من خلال عناوينها: «وطن خارج التغطية»، و»وطن نص كم»، و»وطن شو اسمه»، وفيما قرأته له من نصوص أو ما سمعته في أشرطة فيديو، لاحظت تحويله المأساوي إلى هزلي تهكمي.
يتلاعب الكاتب بالمفردات، فيستبدل مفردة بأخرى أو حرفاً بآخر أو يسقط نقطة من مفردة ليتحول المعنى من جاد إلى ساخر ومن مأساوي يثير الحزن والأسى إلى هزلي يثير الضحك.. هكذا تصبح الشهادة شحاتة والخيمة خيبة «خيمتنا/ خيبتنا»، و»خيمة تخيبنا»، ومن الأمثلة أيضاً على ذلك أن يقرأ قصيدة محمود درويش «سجل أنا عربي» بإسقاط النقطة من جيم سجل، لتغدو «سحل أنا عربي»، ومن القصائد الشهيرة التي تلاعب بها قصيدة تميم البرغوثي «في القدس».. هكذا تغدو عبارة «في القدس من في القدس إلا أنت»: «في غزة صفينا على الأسفلت، في غزة من في غزة إلا أنت، لكن في غزة لا ترى إلا الموت»، والنص كاملاً قرأه من خلال راديو «بيت لحم 2000»، وأدرجه بصوته على صفحة الفيسبوك الخاصة به في ١٩ تشرين الثاني الجاري.
وعلى غرار التلاعب بالنصوص الشعرية، لاحظنا أن هناك تلاعباً بالأغاني، وهو ما فعله أحمد أبو العنين، الذي نزح من شمال غزة إلى الجنوب، إذ تلاعب بكلمات أغنية «كان عندي غزال»، وغناها لتتلاءم مع وضع النازحين وحنينهم إلى بيوتهم وسكنهم، وصار السطر «كان عندي شمال».
ومنذ بداية الحرب، حاول الفتى اليافع عبود بطاح أن يخترع لنفسه شخصية صحافي يغطي وقائع الحرب بأسلوب كوميدي ساخر، ولاقى نجاحاً لافتاً، وصارت مقاطع الفيديو التي يظهر فيها تحقق انتشاراً لدرجة أن بعض القنوات الفضائية التفتت إليه وغطت نشاطه عبر بعض تقاريرها.
مع مواصلة الحرب، ودخولها شهرها الثاني عشر، اعتقل عبود، حيث عرفه جندي إسرائيلي وناداه وأخبره أنه تابع نشاطه الكوميدي الهزلي وهدده بأنه سيقتله.. لم ينفذ الجندي تهديده، ولم تُخِف عبود الحفرة التي وضع فيها، وكان أن أفرج عنه وتحدث للصحافة عما حدث معه، ونعت الجنود بالجبن.
وأنا أنظر في صورة عبود وأقارنها بصورته التي رأيته عليه في شهر الحرب الأول، انتبهت إلى ما فعلته الحرب بجيله.. لقد حولتهم إلى هياكل والطريف أن شخصية عبود المرحة بقيت على سابق عهدها.. فقرات كثيرة كتبت عن مزج الجد بالهزل.
اللافت هو البرنامج الذي قدمته ابنة الناصرة ليلى عبده «وطريقتها ولهجتها وحركاتها أيضاً.. لقد سخرت وتهكمت، عدا أنها اطلعتنا على ما تقوله الصحافة العبرية، ولاقى برنامجها نجاحاً لافتاً».
واللافت أيضاً هو السخرية من «بن غفير» في شهر أكتوبر 2024، الذي ازداد فيه عدد القتلى والجرحى الإسرائيليين.. لقد نسب إلى «بن غفير» أنه يريد أن يلغيه من التقويم السنوي.
ولم يختلف الأمر فيما يخص أسامة حمدان وخالد مشعل.. سخر منهما شكلاً وسخر من بعض ما تفوها به، وصارت عبارة الأخير عن خسائرنا التكتيكية، وخسائر العدو الاستراتيجية مكان تندّر.