للإجابة عن هذا السؤال، والذي كان هو للتساؤل، لا بد من أخذ التقديرات التي توقعت مدة ما أطلقت عليها اسرائيل، وليس غيرها، مصطلح العملية العسكرية، وذلك عشية إطلاقها بعد يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2023، كذلك ما شهدته كل الفترة التي مضت، والتي تجاوزت حتى الآن الأربعمائة يوم، فيما لا يبدو أن هناك أفقاً لانتهائها أو وقفها، في المدى القريب، وأقله شهران آخران تبقيا على يوم تغيير الساكن الرئاسي في البيت الأبيض، كذلك ما أحاط الفترة موضوع التساؤل عن أحداث سياسية إقليمية ودولية، ومراهنات وتعقيدات داخلية، خاصة في إسرائيل، لها علاقة بحكومة اليمين المتطرف ورئيسها شخصياً، ولهذا يبدو السؤال وجيهاً، قبل كل شيء، بينما الإجابة عنه لا تبدو قطعية، لأن علم السياسة أصلاً ينتمي لحقل العلوم الإنسانية، الذي تحكمه التقديرات والتوقعات أكثر مما يخضع للقوانين القطعية الصارمة والمحددة، كما هو حال العلوم الطبيعية.
لقد أطلق الإسرائيليون على حربهم على قطاع غزة مصطلح العملية العسكرية، وبعد القصف الجوي، وبدء التوغل البري، قالوا عن تلك المرحلة من الحرب، إنها العملية البرية، وهذا يوحي أولاً بأن وقت العملية العسكرية محدود، يكون أياماً أو أسابيع أو أشهراً محدودة، وذلك قد يكون بدافع الخطأ في التقدير، أو يكون مقصوداً، والهدف منه احتواء ردود الفعل الإقليمية والدولية التي تكون أكبر بالتأكيد حين يجري الحديث عن إعلان حرب وليس عن إطلاق عملية عسكرية، كما أن أهداف الحرب تكون أكبر وأبعد من أهداف العملية العسكرية، فالحروب عادة تهدف إلى احتلال دول، أو تدميرها، أو بهدف السيطرة على إقليم متنازع عليه، أو ما شابه، أما العلمية العسكرية فيكون هدفها تحرير رهائن، أو تدمير منشأة أو القضاء على تمرد عابر، كذلك غالباً ما تكون الحرب بين الدول، فيما العمليات العسكرية قد تقع من قبل دولة ضد دولة أخرى، أو ضد جماعة مسلحة، أو أي حدث أمني داخلي تعجز الشرطة عن التصدي له.
ومع أن بعض العسكريين الإسرائيليين قالوا مع بدء حربهم على قطاع غزة، إنها ستطول، وإنها ستمتد شهوراً، وربما سنوات، إلا أن التقدير الذي كان أكثر تداولاً هو أن الحرب ستستمر أشهراً قليلة، بحيث أنها ستنتهي من تحقيق أهدافها حتى نهاية العام المنصرم، أي ألا تتجاوز الثلاثة أشهر، ثم مع ارتفاع حدة الرفض العالمي، خاصة في الربع الأول من هذا العام، مع توالي جلسات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، مترافقة مع تقديم جنوب إفريقيا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي شكوى ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب حرب الإبادة الجماعية، وانطلاق التظاهرات العارمة في كل عواصم ومدن العالم، وحتى مع احتجاج داخلي إسرائيلي، طالب بعقد صفقة التبادل، ساد التقدير بأن بنيامين نتنياهو صاحب المصلحة الشخصية والسياسية في مواصلة الحرب لن يصمد أكثر، وأن الحرب ستتوقف، وذلك عبر مدخل الصفقة، التي عللت بها واشنطن رفضها إصدار قرار ملزم من مجلس الأمن يفرض على إسرائيل وقف الحرب، أو يطالب واشنطن نفسها بممارسة ضغط جدي على إسرائيل لوقف الحرب.
أما عن العوامل التي ساهمت بتقديرنا في إطالة أمد الحرب، فقد جاءت على الجانبين، أي على طرفَي الحرب، فإسرائيل فضلاً عن كل المتابعين والمراقبين والمهتمين، وعلى كل المستويات، لم تقدر أو تتوقع بشكل أكيد، حين نفذت "حماس" عملية طوفان الأقصى، أن يشارك آخرون في هذه الحرب، وذلك استناداً إلى حروب سابقة شنتها إسرائيل على غزة، منذ العام 2008، ولم يتدخل أحد إلى جانب "حماس" بالطبع، وهذا ما دفع قائد "القسام"، محمد الضيف، إلى أن يناشد ما تعزز لاحقاً خلال الحرب من كونه محور المقاومة، وكان الحديث يدور حول "وحدة الساحات" دون أن يجري اختبار ذلك ميدانياً، وقد تدخل "حزب الله" أولاً، ثم اليمن ففصائل في العراق، وهكذا ظهر مصطلح جبهات الإسناد، وهو يعني أنه أقل من المشاركة الكاملة في الحرب، وأعلى بالطبع من التأييد الكلامي، أو المشاركة السياسية فقط، أو من الوقوف جانباً.
وبالتأكيد، فإن ظهور جبهات الإسناد منع اسرائيل من تحقيق النصر الخاطف، وتحول بالعملية العسكرية إلى حرب، بل وإلى حرب إبادة، وفق التصنيف القضائي الدولي، وهذا العامل بقدر ما ساهم في إطالة أمد الحرب من جهة، فإنه كان يمكنه مع عوامل أخرى أن يؤدي إلى تقصير أمدها ووقفها، دون أن تحقق اسرائيل أي هدف ولا حتى صورة النصر التي كان يجري الحديث عنها، وتحققت باغتيال الأمناء العامين لـ"حماس" و"حزب الله"، أي أن تضطر إلى وقفها، وتقبل بالخروج على صورة المهزومة، وذلك لو أن الضغط الدولي تواصل، بمثلث أضلاعه المكون من القضاء الدولي، والتظاهرات، وتوالي جلسات مجلس الأمن والجمعية العامة، مع تتابع المواقف الرسمية للدول، بالانتقال من جانب التعاطف مع إسرائيل الذي كان يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، إلى الاصطفاف إلى جانب وقف الحرب بعد أن اتضحت صورتها كحرب إبادة، وظهرت هذه الصورة في ذروتها عشية اقتحام مدينة رفح، وكانت آخر ملجأ للنازحين بالقوة العسكرية من كل أنحاء القطاع.
لكن نجاح واشنطن في خداع المجتمع الدولي، وفي مقدمته مجلس الأمن، بأنها ستوقف الحرب عبر صفقة التبادل، خاصة بعد مبادرة جو بايدن، والتي اتخذ فيها مجلس الأمن قراراً، "حرر الحرب" من الضغوط الخارجية، وأبقى كلمة الفصل للميدان، فكان أن ردت جبهات الإسناد برفع وتيرة إسنادها، حتى أنه لاح في الأفق احتمال انضمام إيران إلى تلك الجبهات، وربما جبهات أخرى من بلدان أخرى، فضلاً عن محاولة التصعيد بالضفة، وإطلاق العمليات داخل الخط الأخضر، فيما ردت إسرائيل، بعد أن ظهرت بوادر انخفاض حدة الحرب إلى تأجيجها بإلقاء وقود إضافي، تمثل في تنفيذ جملة اغتيالات استهدفت قيادات "حماس" و"حزب الله"، ما أعاد الحرب إلى الدخول في طريق طويل، ذلك أن الحرب مثل النار تحتاج إلى وقود كلما خفتت نارها، لإعادة إشعالها وتأجيجها.
ثم وبعد تردد رافق الحرب طوال عام كامل، أقدمت إسرائيل على توسيع نطاقها باستهداف لبنان، وعادت مجدداً لتتحدث عن عملية عسكرية وليس عن حرب بما يعني بأنها تستهدف الجنوب و"حزب الله"، وليس كل لبنان، أو ليس الدولة اللبنانية وجيشها، وأنها تهدف إلى تحقيق أهداف عسكرية محددة، وليس احتلال لبنان.
أما نجاح إسرائيل على جبهة الاستخبارات بتنفيذ الاغتيالات، فقد قابله نجاح المقاومة في غزة وجنوب لبنان في ملاحقة الجنود الإسرائيليين، وإلحاق الخسائر البشرية بهم، وهذا يعني أن الحرب كانت سجالاً بين طرفيها، ولذلك فإن إسرائيل لم تحقق بعد أهداف العملية العسكرية المعلنة على الأقل، لا في قطاع غزة ولا في جنوب لبنان، وإلا لكانت قد أعلنت انتهاء العملية العسكرية دون الحاجة لإعلان وقف الحرب، وربما حتى دون الحاجة إلى عقد اتفاق، لا مع "حماس" ولا مع لبنان، كذلك فإن المقاومة في غزة ولبنان معاً، لم تصل حتى اللحظة إلى نقطة إجبار إسرائيل على وقف الحرب، حيث تكون كلفة استمرارها، وهي القتلى من جنودها، أقل من كلفة وقفها السياسية، بعد أن غامرت إسرائيل بمكانتها الدولية التي صارت في الحضيض، بما لم يحدث لأي دولة باستثناء جنوب إفريقيا العنصرية، من قبل، وتحملت الخسارة الاقتصادية الباهظة، وحتى الخسائر البشرية.
بقي أن نشير إلى أن الحرب تدحرجت لتظهَر شعارات وأهداف بعيدة المدى، تؤكد أن عقوداً وليس سنوات مفردة تحتاج الحرب لتحقيقها، من مثل إعادة فك وتركيب الشرق الأوسط، وكما كانت إطالة أمد الحرب، خاصة بعد اجتياح رفح بشهرين، أي منذ تموز الماضي، وهو التاريخ الذي ظهرت فيه مبادرة بايدن، قد دفعت إسرائيل لتوسيع دائرة الحرب لتشمل لبنان، فإن الفشل العسكري الإسرائيلي في لبنان سيدفعها إلى توسيع دائرة الحرب مجدداً لتشمل دولاً أخرى، تماماً كما كان فشلها العسكري في غزة دافعاً لشن حربها على لبنان.