في ظلمة الهجمات الدولية "الغولدستونية" على الاسرائيليين المتوحشين، المحتلين، مجرمي الحرب، ظهر فجأة بصيص نور: المساعدة الانسانية التي نقدمها لهاييتي. فقد ملأت الكثيرين منا بالعزة، احتلت عناوين رئيسة دولية، عرضت الصورة نصف المنسية لاسرائيل الجميلة والطيبة، لليهودي الذي يأتي لمساعدة المعذبين، للجيش الاسرائيلي الذي يمد العون الطبي للرضع. لم نسمع ولم نرَ هناك دولا عربية غنية أو حتى دولا جبارة مثل الصين والهند. ومع ذلك، يخيل أنه يوجد في اوساطنا من لا يريحهم هذا؛ فهم لا يمكنهم ان يحتملوا لحظة واحدة من الراحة الوطنية؛ سيء لهم مشاهدة العناوين الرئيسة في وسائل الاعلام العالمية التي تمجد الجيش الاسرائيلي؛ ويقض مضاجعهم التخوف من ان ينسى العالم ولو للحظة مظالم الاحتلال الاسرائيلي. مثلا ما أن هبطت وحدة المساعدات في هاييتي حتى وجد عندنا محللون ادعوا بان هذا اضاعة لاموال دافع الضرائب وانه في جملة المساعدات الدولية فان مساعداتنا لن يحس بها أحد؛ وانه كان من الافضل من الناحية الاقتصادية ومن ناحية صورتنا ان نبعث بالمستشفى الى غزة. وفي السياق الغزي بالطبع وجد المحللون الذين قالوا لنا بان حقا الى جانبنا يوجد محاصرو غزة، فقراء، معوقين، تعوزهم الكهرباء والحلويات للاطفال – وكل ذلك بذنبنا، بسبب الحصار الذي نحن نفرضه. إذن لماذا نحتاج الى الركض كي نساعد المساكين في هاييتي؟ كان يمكن حقا ان نشم رائحة الشر التي خرجت من الساخرين. فما هو مصدر هذا الشر ومن اين الحماسة في ايجاد نقاط خلل في أفعال الدولة والجيش، ومن أي نبع تأتي هذه الكراهية لكل شيء جميل وطيب تفعله الدولة؟ لدى الرب وعلماء النفس توجد الحلول. لا معنى للاشارة الى الفوارق الشاسعة الواضحة بين ما حصل في هاييتي وبين قطاع غزة. ولكن توجد ظاهرة واحدة من المجدي التوقف عندها. ما حصل في هاييتي هو حدث لمرة واحدة، ما أن يمر الوقت حتى يشطبه العالم من جدول أعماله ويكف عن رؤية المعاناة الذل لابناء هاييتي على شاشات التلفزيون. اما في غزة (ولدى الفلسطينيين بشكل عام) فان المسكنة هي موضع دائم، انطلاقا من خيار؛ المسكنة هي ذخر اقتصادي من الدرجة الاولى، ذخر صوري وذخر سياسي. سكان قطاع غزة (معظمهم على الاقل) عقدوا "صفقة رزمة": هدفنا المنشود هو ان تكون كل ارض فلسطين تعود الى الله والمؤمنين، ومقابل تحقيق ذلك – حتى لو تأخر واحتاج الى بضع "هدنات" – نحن مستعدون لان نعاني والقسم الاكبر من اموالنا سنخصصها لشراء وسائل قتالية، وحفر تحصينات تحت أرضية. هذا هو السبب الاساس في أن مساعدات بمبلغ 4.4 مليار دولار خصصتها 80 دولة ومنظمة في قطاع غزة في أعقاب "رصاص مصبوب" لم تأتي حتى الان في اغلبيتها الساحقة. واذا ما خصص لقطاع غزة لغرض الاعمار هذا المبلغ، فكم سيخصص لهاييتي؟ لدي احساس بانه سيكون الحديث يدور نسبيا عن مبالغ اقل بكثير. الاتحاد الاوروبي، مثلا، ساهم في هذه الايام بـ 420 مليون يورو فقط من اجل هاييتي، فيما يخصص نصف هذا المبلغ للاحتياجات الفورية والنصف الاخر للترميم. وذلك في الوقت الذي ساهم الاتحاد فيه للسلطة الفلسطينية حتى الان بالمليارات: كل سنة 175 مليون يورو، وكذا منح خاصة، مثل منحة الـ 158 مليون يورو هذه الايام حقا. قلب الاوروبيين يتفطر بالاحرى على "مسكنة" الفلسطينيين، اكثر من معاناة غامقي البشرة في هاييتي.