أسئلة الحرب (35)..

الثلاثاء 03 سبتمبر 2024 09:41 م / بتوقيت القدس +2GMT
أسئلة الحرب (35)..



الكاتب: حسن خضر:

نعثر، في عالم ما بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، على بيئة إضافية أنجبت ظاهرة النقد الراديكالي للإسلام. نعني بالبيئة موارد وبنى تحتية، وتصوّرات، وسياسات، في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية. وقد كانت كلها جاهزة لاستقبال مولود من هذا النوع. فعندما وقعت هجمات الانتحاريين الإسلاميين في ذلك اليوم المشؤوم، كانت فرضيات عالم السياسة الأميركي صامويل هنتنغتون عن "صراع الحضارات" (1996) في متن السجال العام بشأن عالم ما بعد الحرب الباردة.

تبدو فرضيات هنتنغتون أكثر تعقيداً من صورها المُبسّطة. ورغم مرافعاته الرئيسة تتمحور حول الانتقال، بعد نهاية الحرب الباردة، من صراع الأيديولوجيات إلى صراع كتل حضارية متشكلة تاريخياً هي الهندية والصينية والإسلامية مع كتلة الحضارة الغربية، إلا أن "الكتلة الإسلامية" نالت قدراً من الاهتمام يتجاوز الكتلتين الهندية والصينية.
وبقدر ما أرى، كان النفط وإسرائيل في طليعة العوامل التي رجّحت زيادة الاهتمام، إضافة إلى مسألة التماس الجغرافي مع الغرب الأوروبي، والذاكرة التاريخية. وقد أسهمت هذه العوامل مجتمعة في تشكيل الإطار العام، والتصوّرات المُعتمدة، للكلام عن "الكتلة الإسلامية" كمصدر تهديد.
 وبما أن "الإسلام" خلافاً للهندوسية والديانات الشعبية الصينية كالبوذية والطاوية، يمتاز بطاقات تحريضية هائلة، وينطوي على ميل إلى العنف، في نظر المعنيين بفرضية الكتل الحضارية، ومرافعات الصراع، صار من الضروري شن الحرب عليه (الحرب على الإرهاب) من ناحية، ونزع شوكته القيامية (تحديث الخطاب الديني) من ناحية ثانية.
وكما يحدث، دائماً، مع وجود هويات وكيانات مُغلقة، وفي الغالب متخيّلة ومتوهّمة، اقتضت الحاجة وجود أصحاب مؤهلات خاصة تسمح باجتياز حدود الهويات، والكيانات المغلقة، للعمل كوسطاء وأدلاء وقصاصي أثر. وكما يحدث، دائماً، أيضاً، تطوّع أشخاص عاشوا على حدود وتخوم الهويات والكيانات المعنية للقيام بدور كهذا، أو تم العثور عليهم، وأحياناً اختراعهم، لتمثيل الدور نفسه (وهؤلاء أكثر من الهم على القلب في أقسام الشرق الأوسط، والدراسات الإسلامية في الجامعات، وبيروقراطية الدولة، وأجهزة الأمن).
وفي سياق كهذا، صار المسرح جاهزاً لاستقبال وسطاء وأدلاء برز بينهم من صاروا نجوماً في الأوساط ذات الصلة. فهناك، مثلاً، الفرنسية جيزيل ليتمان، التي نشرت باسم مستعار، هو بات يئور، تحذيرات مُفزعة من خطر الإسلام، وما ينتظر القارة الأوروبية، والحضارة الغربية عموماً، من مصير مُظلم نتيجة الهجرة، والإرهاب، وتراخي الحكومات الأوروبية. بات يئور هذه وُلدت في القاهرة، وغادرتها في الخمسينيات، في سياق الهجرة الواسعة لليهود المصريين، وكانت وقت الخروج من مصر في العشرينيات من العمر.
وهناك، أيضاً، حالة أعتقد أنها فريدة فعلاً لإسرائيلي من أصول مغربية يُدعى رفائيل يسرائيلي، جاء في سيرته العمل في الجامعة العبرية، وفي مؤسسات عسكرية وأمنية. وقد نشر بالإنكليزية عشرات الكتب عن التهديد الإسلامي، ولم يتورع عن استخدام مفردات من نوع الزومبي في معرض تشخيص التهديد، بل وظهرت على أغلفة كتبه المنشورة أيدي الزومبي المعروقة والنحيلة. 
ولدينا حالة الأميركي روبرت سبنسر، المنحدر من عائلة ذات أصول لبنانية، والذي يكرس جهده البحثي، وتحليله السياسي، لرصد إرهاب الجهاديات في العالم، وجذور الإرهاب، والصلة العضوية بين "الإسلام" والإرهاب والعنف. ونُضيف ابن الورّاق إلى القائمة، وهو اسم مستعار لمسلم سابق من الهند، أكثر كفاءة من كل المذكورين في موضوع تخصصه، أي تاريخ وعقائد الإسلام والمسلمين، ويبدو أكثرهم اطلاعاً على الميراث الثقافي الغربي، وتتمثل مرافعته الأساسية في أولوية وتفوّق الغرب why is west is Best
وعلى الرغم من وضع ظاهرة الوسطاء والأدلاء في عالم ما بعد الحرب الباردة، والحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وصراع الكتل الحضارية، والحرب على الإرهاب، ونزع الشوكة القيامية (تحديث الخطاب الديني لاحقاً) إلا أن اقصاء الكثير من فرضياتهم الأساسية، وإدانتها بالتحيّز لمجرد أنه وُلدت "على فراش الخطيئة" لا ينطوي على خلل فادح وحسب، بل ويصب الماء في طاحونة الإسلاميين، أيضاً، الذين يحاولون التنصّل مما ألحقته موجة الأسلمة الوهابية ـ الإخوانية، منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي (وبدعم من الغرب نفسه) من أضرار فادحة في كل مكان عثرت على موطئ قديم فيه. 
ينبغي الحفاظ في الذهن على استطراد من هذا النوع، لكيلا تتكرر مفارقة المصير المقلوب لكتاب إدوار سعيد "تغطية الإسلام" من حقيقة أنه كان محاولة لتشخيص كيف ولماذا تعيد أجهزة الإعلام الغربية إنتاج صورة "الإسلام" والمسلمين بطريقة معيّنة، إلى تأويلات من نوع أن الكتاب كان دفاعاً عن "الإسلام". 
على أي حال، ولغرض هذه المعالجة، في وصف المذكورين، وأمثالهم، وأعدادهم كبيرة فعلاً، بالوسطاء والأدلاء ما يُسهم في توضيح فكرة لا غنى عنها لإنشاء مرافعة كاملة في هذا الصدد. فالدليل، كما الوسيط، يبيع ما يعرف لطرف يحتاج بضاعته، ولكي تزداد القيمة الاستعمالية للبضاعة فإنه يحتاج لمعرفة توقعات المشتري، وتشخيص تفضيلاته، أيضاً، للعمل على تلبيتها وإشباعها، حتى وإن اضطر لتفصيلها حسب التفضيلات، لا حسب الواقع نفسه. 
وبناء عليه، يغيب عن نقد هؤلاء دور الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، في إنشاء معرفة، وما تستدعي من سياسات، وتمويل، وشبكات، وقوّة ناعمة أو عارية، لكينونة اسمها "الإسلام" اعتقدَ أن لديها كفاءة تحريضية عالية، وأن إمكانية النجاح في تطويعها، واستثمارها، والرهان عليها، هي الفيصل بين النجاح والفشل في سياسات واستراتيجيات وثيقة الصلة بالشرق الأوسط. فاصل ونواصل.