في أعقاب تصاعد انتهاكات وزراء الاحتلال لحرمة الأقصى، نشرت صحيفة عبرية ناطقة بلسان اليهود الغربيين الأورثوذوكس (الحريديم) فتوى جديدة باللغتين العربية والعبرية تحرّم زيارة اليهود للحرم القدسي الشريف.
في صفحتها الأولى، وفي مكان بارز نشرت صحيفة “ياتيد نئمان” الناطقة بلسان حركة “يهودت هتوراة” (الحريديم الغربيين)، اليوم، فتوى لحاخامات الحركة، تأتي على خلفية دعوة وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير لصلاة اليهود في الأقصى، وبناء كنيس في الحرم. وجاء فيها: “يمنع منعاً باتاً صعود اليهود لـ “جبل الهيكل”(باحة الأقصى). هذا هو رأي وفتوى كل رجال الفقه والإفتاء اليهود على مرّ العصور، وهذا الرأي لم يتغيّر، ولا يزال ساري المفعول حتى الآن”.
ولجانب هذا العنوان، نشرت الصحيفة العبرية صورة الوزير المدان بالإرهاب بن غفير تحت عنوان “مشعل النيران”.
وأظهرَ رسم كاريكاتير نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم بن غفير يطلّ من شرفة بيت ويسكب جرة بنزين على نار مشتعلة، وهو يقول: “إن أردتم.. هذه ليست أسطورة”، وهذه إشارة لتصريحاته الاستفزازية التي يطرح فيها فكرة بناء كنيس. والرسّام هنا يتكاتب مع مقولة تاريخية لمؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل، الموجود في ذاكرة الإسرائيليين الجمعية، وهو يطل من شرفة بيت بعيون متأملة، وهو يتحدث، قبل قرن ونصف القرن، عن فكرة إنشاء دولة يهودية في فلسطين: “إن أردتم هذه ليست أسطورة”.
نظرية “الوضع الراهن”
يشار إلى أن عشرات الحاخامات كانوا قد أصدروا، منذ عقود كثيرة، فتاوى تحرّم زيارات اليهود للحرم القدسي الشريف، تم التأكيد عليها بشكل جماعي بعد احتلال القدس عام 1967 حيث أكد مئات منهم أن مثل هذه الانتهاكات للحرم تعتبر، حسب الشريعة اليهودية، من الكبائر.
ويستند هؤلاء الحاخامات في الماضي والحاضر على فكرتين أساسيتين: عدم جواز دخول اليهود الحرم القدسي الشريف كونه مكان الهيكل المزعوم الذي لا يعرف بالضبط موقعه قبل هدمه، وبالتالي فإن دخول اليهود يعني المساس بحرمته من خلال الدوس على أثره بصفته “قدس الأقداس”.
وحسب الشريعة اليهودية أصلاً كان يحظر دخول الهيكل دون التطهّر بمسح الجسد، قبيل الزيارة، برماد يستحضر من حرق بقرة حمراء. وعلى خلفية الرغبة بالقيام بهذه الاقتحامات سعت مجموعات من اليمين المتشدد الغيبي الاستيطاني للبحث عن بقرات حمر، بل تم استيراد ست بقرات حمراء من الولايات المتحدة، قبل سنوات، لهذا الغرض الديني.
أما الفكرة الثانية من فتاوى التحريم فهي أمنيّة، حيث تطابق الحاخامات مع رؤية وزير الأمن الإسرائيلي الراحل موشيه ديان، صاحب نظرية “الوضع الراهن” في الحرم القدسي الشريف، حيث حدّد، بعد احتلال 1967، أن الحرم يدار من قبل لجنة الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن، فيما تكون السيادة على المكان إسرائيلية، تكون الصلاة في المكان للمسلمين فقط على أن يسمح لليهود بالقيام بزيارات كسائحين فحسب.
نتنياهو المسؤول الأول
بيد أن الاقتحامات والانتهاكات للحرم القدسي الشريف لا تقتصر على جهات متطرفة، وعلى أنصار بن غفير وسموتريتش، فهناك أوساط إسرائيلية متزايدة، منذ نحو ثلاثة عقود، تتبنى رؤيتهما الخطيرة، ويتجلى ذلك في عدد المشاركين في الاقتحامات.
وفي الأمس، كشف عن مشاركة رقم قياسي بهذه الاقتحامات: نحو 44 ألف يهودي شاركوا في العام الأخير في انتهاك حرمة الأقصى.
كذلك تتحمّل حكومات الاحتلال المتتالية عن هذا الاستفزاز الخطير، فقد سبق أن كشف تحقيق لجمعية “عير عميم” الحقوقية الإسرائيلية، قبل 15 عاماً، عن دعم حكومة الاحتلال 27 جمعية من جمعيات بناء الهيكل على أنقاض الأقصى وقبة الصخرة.
وفي الأمس، كشف عن تكريس وزير التراث عاميحاي إلياهو ميزانية لتمويل انتهاكات اليهود للحرم القدسي الشريف، ويتحمّل رئيس حكومته نتنياهو المسؤولية الكبرى، فهو يسمح بهذا الاعتداء الخطير الذي يحاول استنساخ تقاسم الحرم الإبراهيمي في الخليل، من خلال تطبيع فكرة تقاسم الأقصى بالتدريج.
نتنياهو يكتفي ببيانات مقتضبة فاترة تزعم رفضه تغيير “الوضع الراهن”، دون التدخل لمنع الانتهاكات فعلياً، فيما تواصل جمعيات الهيكل بتمويل حكومته لمشروع “تأليف القلوب” بالمحاضرات في المدارس والنوادي الخاصة بالشبيبة اليهودية، وتنظيم “رحلات” لهم للحرم ضمن إقناعهم بفكرة إعادة بناء الهيكل الثالث، وهي فكرة تجد لها أنصاراً داخل الحكومة، وفي الأحزاب، وهل ليست مجرد فكرة شعبوية خلفها أطماع سياسية حزبية وشخصية فحسب، بل عقائدية تشي بتحول الصراع لديني أيضاً.
تصريحات شعبوية
في حديث للإذاعة العبرية، سئل وزير التربية والتعليم في حكومة الاحتلال يواب كيش عن حق اليهود بزيارة الأقصى والصلاة، فعبّر بشكل ملتو وغير مباشر عن موافقته: “تربيتُ في بيت يعارض زيارة اليهود لجبل الهيكل، لكنني رجلٌ ليبرالي، وأؤيد حرية العبادة لليهود أيضاً في العالم والبلاد. يمكن تغيير الوضع الراهن في المكان، ولكن ينبغي فعل ذلك بشكل محسوب ومدروس، وفي دوائر رسمية لصناعة القرار، والأخذ بالحسبان تبعات تغيير الوضع الراهن”.
قبل ذلك، كتب كيش في تغريدة: “كل تغيير لـ “الوضع الراهن” في “جبل الهيكل”(الحرم القدسي الشريف) بالتشديد على الفترة الراهنة، فترة الحرب، ينبغي أن يتم بشكل مهني داخل المجلس الوزاري المصغّر، مع دراسة كل المعاني والدلالات. إن تصريحات بن غفير عديمة المسؤولية، شعبوية زائدة وغبية”.
وسئل كيش حول إن كانت صلاة اليهود في الحرم مشروطة بطبيعة التبعات الأمنية، فقال متهرباً: “عبّرتُ عن رأيي المبدئي، وأكتفي بذلك”.
في المقابل؛ توجّه أوساطٌ في الائتلاف وفي المعارضة والرأي العام أصابع الاتهام لبن غفير بالعبث ببرميل بارود، وإشعال حرب دينية تشكّل تهديداً وجودياً على إسرائيل، كونها تستعدي المسلمين في العالم عليها وعلى اليهود أينما كانوا، وتصب الماء على طاحونة “حماس”، الباحثة عن “وحدة الساحات”.
وحمل وزير الداخلية (حزب “شاس”- الخاص بالحريديم الشرقيين) موشيه أربيل على نتنياهو، فقال إنه على رئيس الحكومة التدخّل لفرملة بن غفير فوراً، بعد تصريحاته غير المسؤولة التي تتحدى علاقاتنا الإستراتيجية مع دول إسلامية ترغب في المشاركة بتحالف إقليمي دولي ضد إيران ومعسكرها.
وتابع أربيل، في بيان: “بن غفير، بتصريحاته الغبية، يشعل ناراً خطيرة”.
وكان عددٌ قليل من النواب والوزراء قد أعلنوا مناهضتهم لتصريحات بن غفير وانتهاكاته للحرم.