ما الذي يعنيه القبر بعد فقد الإنسان؟ كانت تلك الأم تصرخ: وين قبرك يا صلاح؟ وهي تعرف أن صلاح لم يعد على قيد الحياة، فهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ فـ»صلاح» لم يعد حولها ولا في حياتها ولا عالمها المتواضع البسيط، لا ترى وجهه ولا تشبع روحها من ابتسامته، ولا تأنس لوجوده ولا تهنأ حين يملأ طوله فراغ الغرفة عليها، ولا يناديها بكلمة «أمي»، لكنها تصرخ بألم؛ فهي تريد قبره، فقد قتل ودفنته على عجل ثم تشابهت القبور العاجلة، وتبعثر المكان وجاءت آلة الموت والدمار فعاثت في المنطقة فساداً وخراباً حتى غيرت ملامحها، ولم تعد قادرة على أن تهتدي على القبر الذي حفرته بيديها، ورغم ذلك فهي تبحث عنه، بقلب الأم وخوفها وجزعها وبصيرتها وإحساسها ودمعها ولوعتها.
ما الذي يعنيه القبر لنا؟ فقد رحل أحبتنا وأودعناهم القبور بأيدينا قبل هذه الحرب التي حولت الإنسان لأشلاء وأحياناً لجثة متحللة، وأحياناً لمفقود بلا أثر. ورغم ذلك فنحن لا نسلّم بأن الميت قد رحل إلا حين نرى قبره، لعلنا في هذه اللحظة نسلّم بأنه لم يعد بيننا، لكن هناك مكاناً نذهب إليه حين نحتاجه وحين نشتاقه وحين تحل الأعياد دونه، وحين نريد أن نبلغه خبراً مهماً عن أحبته، ولذلك فالقبر يهمنا كأحياء، أما الميت فهو ميت لا يملك شيئاً من أمره ولا يعرف مصير هذا الجسد الذي عاش فيه سنوات قد تكون طويلة أو قصيرة، لكنه في النهاية لا يستطيع أن يشير على الأحياء ماذا يفعلون بجسده، ولا يمكنه أن يقول للصاروخ ألا يحوله لأشلاء، ولا يمكنه أن يطلب من قذيفة الدبابة أن تبقي عليه سليماً كما ولدته أمه من أجل أمه أيضاً لأنها سوف تتألم حين تراه بلا يدين أو بلا قدمين أو مقطوع الرأس، أو حتى عبارة عن كومة من اللحم.
القبر هو المكان الأخير للبكاء، وهو الذي يصر العدو المتوحش أن يحرمنا منه، فقبل يومين فقط تم تسليم ما يقارب من 89 جثة في أكفان مشتركة لكي يتم دفنها في غزة، بعد أن اختطفها العدو من المقابر والمستشفيات، وربما كان بعض أصحابها لا يزالون أحياء، ولكنهم قتلوا تحت التعذيب وبالقطع فهي جثث مقطعة وناقصة ومبتورة وقد سرقت أعضاؤها الداخلية، ولذلك فقد أمكن جمعها في أكفان مشتركة، إضافة إلى أنها قد تركت حتى بليت وتحللت؛ لكي يصعب اكتشاف ما حل بها من تعذيب وتشويه وسرقة، وتم تسليمها أخيراً للجهات الصحية المختصة التي أقامت مقبرة جماعية ولم يتمكن أحد من التعرف على أي جثة منها، رغم أن المفقودين من غزة يتجاوز عددهم الآلاف، وهناك من أشار إلى أن هناك حوالى ألفَي جثة تم اختطافها من المقابر وقد اختفت وأخفيت ولم يتم تسليمها ثانية، وحيث يصعب كالعادة التعرف على أصحابها.
لا أحد يملك إحصائية تقريبية لعدد المفقودين والذين لا يملكون قبوراً، والذين لا يجد أقاربهم مكاناً يشعرون بأنهم قريبون منهم وأنهم يحدثونهم ويهدونهم دموعهم وكلمات وجعهم، ولكن الوجع بعدم وجود قبر لحبيب هو في الواقع يعادل وجع فقده، ولذلك فالقبر هو الشهادة الأخيرة والاعتراف الأخير والكلمة الأخيرة للحياة، آخر محطة لإنسان كان بيننا ثم أصبح بعيداً، وهناك هذان الشاهدان القائمان والحفرة التي أحيطت بالإسمنت مرتفعة أو منخفضة، ولكنها في النهاية تدلنا حين نحتاج أن نبكي، وحين يفيض الشوق فنترك كل الأحياء ونذهب للفقيد لكي نخبره أنه لا أحد يملأ مكانه، وأن الحياة دونه موحشة وأن الدموع لا تزال غزيرة، لكن عدونا المتوحش ينافسنا في أملنا الوحيد؛ حيث يصبح أحبتنا بلا قبور أو يصبحون في قبور جماعية فتخشى أن تهمس لغائب طمر جسده بين آخرين فيسمع غيره ما تبوح به، يسمع سراً كان لا يتعداكما، ويسمع بكاءً حاراً وحلماً كان ولم يتحقق، لذلك صاحت تلك الأم بكل لوعة وبحثت طويلاً وهي تنادي على قبر صلاح!!